الآنسة جولي والدائنون على مسرح الكولين في باريس:محمد سيف

قدم المخرج الفرنسي كريستيان شيريه مسرحيتي “الآنسة جولي” و”الدائنون” للمؤلف السويدي أوغست ستريندبيرغ في عرض من جزأين، في جوٍ من الفكاهة، رغم شراسة العملين وأسلوبهما الحاد والمثير. في كلتا الحالتين، كانت النساء ضد الرجال، والخدم ضد الأسياد، والصراع تجاوز حدود الموت. تدور الأحداث في مسرحيَّة “الآنسة جولي” في مطبخ القلعة في ليلة الاحتفال بالقديس جان أو عيد منتصف الصيف. الفعل المسرحي متواصل، والزمن غير متقطع، والمكان لا يتغير. تستفيد الآنسة جولي من غياب والدها، الكونت الذي لا يُرى ولا يُسمع إلا من خلال الآخرين الذين يتحدثون عنه بخوف ورهبة، والذي يظهر في المسرحيَّة كرمز وليس كشخص حي. وتغوي خادمها “جان” خطيب الطباخة “كريستين” بدعوتها له للرقص، وهي في أوج جنونها، لدرجة أن الخادم “جان” يقول في الجملة الأولى من المسرحيَّة:
جان: لقد جنَّ جنون الآنسة جولي الليلة، جنَّ جنونها تمامًا.
يطيع الخادم أوامر سيدته “الآنسة جولي”. وفي نهاية الليلة، تنام مع خادمها الانتهازي المتغطرس الذي لا يهمه في ممارسة الحب معها سوى الاستفادة القصوى من الموقف. لكنْ ما إنْ ينتهي فعل الرغبة الغريزيَّة حتى ينقلب السحر على الساحر، وسرعان ما يتحول انتصار الآنسة جولي إلى انتصارٍ للخادم الذي اختلط دمه بدم السادة الأقوياء، فيصبح بدوره قوياً. لم يبق أمام الآنسة جولي خيارٌ سوى طاعته والخضوع له، خاصة عندما يطلب منها بشكل غير مباشر أنْ تقتل نفسها، فتطيعه وكأنها منومة مغناطيسيًا. والفرق بين النزوة والحب الحقيقي هو أن النزوة تدوم لفترة أطول قليلاً، على حد تعبير أوسكار وايلد.
تكسر قوة الغريزة الجنسيَّة لدى الآنسة جولي الحواجز الاجتماعيَّة التي تفصل بين السيدة والخادم، ولكنْ للحظة واحدة فقط. هذا هو موضوع الجزء الأول من المسرحيَّة. في الجزء الثاني من المسرحيَّة ذاتها، نرى الشخصيتين تنظران إلى الحياة من وجهة نظر جديدة تمامًا. فالغريزة الجنسيَّة التي جمعت بينهما في لحظة ما، لم تعد قادرة على تغيير مظهر الواقع. لذا فإنَّ الشيء الوحيد الذي يبقى بينهما هو العداء الاجتماعي. أصبح الفعل الجنسي بالنسبة للآنسة جولي مصدرَ رعبٍ حقيقي. كل ما احتفظت به من لحظة الحمى هذه هو الشعور المؤلم بالعار. وفي النهاية، كان السبيل الوحيد للخروج من مأزقها هو الانتحار. وهكذا تتوجت المرحلة الأولى من الفعل بأكثر الأفعال وضوحًا في الحياة، بينما تنتهي المرحلة الثانية بالموت. ويتفق هذا التناقض تمامًا مع الفكرة التي وضعها المؤلف ستريندبيرغ في مقاله عن “الدراما الحديثة والمسرح الحديث”، حين يقول: (في الدراما الطبيعيَّة الجديدة، نشعر على الفور بالحاجة إلى دافع محرك. وهذا هو السبب في أنها تتحرك بين قطبي الوجود: الولادة والموت. […] والعودة إلى اللاوعي الأصلي يمكن أن يستهوي كلَّ من أنهكته صراعات الحياة. فهل اكتساب الوعي، في نهاية المطاف، ذو قيمة ثمينة حقاً؟) إنها هي، الآنسة جولي، مصدر كل الآلام، في الواقع. إنَّ انتحارها ليس أكثر من ابتعادٍ عن اللذة والألم. تعبر الآنسة جولي عن ذلك بطريقتها الخاصة في نهاية المسرحيَّة.
الآنسة جولي: “آه، سأكون سعيدة عندما نصل إلى النهاية، إذا كانت هذه هي النهاية، وعندها سيصاب والدي الكونت بنوبة قلبيَّة ويموت، وستكون هذه نهايتنا جميعاً، وسيحل السلام والراحة الأبديَّة”.
في المسرحيَّة الثانية، ” الدائنون”، نجد قسوة ثلاثيَّة شيطانيَّة. رجلان مدينان للمرأة ذاتها التي تتخلى عن الأول وتمتصُّ دمَ الثاني. يعود الزوج الأول، جوستاف، ليثأر لنفسه، ولكنْ بدلاً من التعامل مباشرة مع زوجته ” ثيكلا “، يشرع في تدمير حياة الزوجين الجديدين، بدءًا من أدولف، الزوج الذي حلَّ محله. وهكذا، يبدو أنَّ هذين الزوجين الجديدين يجدان نفسيهما في موقفٍ متناقضٍ بين الدائن والمدين، لكنَّ المشكلة بالنسبة له تصبح مزدوجة للغاية، لأنه يجد نفسه واقعاً بين خصمين، ولا يعرف ما إذا كان سيخوض صراعاً أو بالأحرى ما إذا كانا سيضطر للدفاع عن نفسه على جبهتين مختلفتين؟ خاصةً وأنه قد دُمر بالكامل على يد زوجته التي امتصت دمه وسرقت كل طاقته الحيويَّة وخنقته بقوتها، وسلبته كلَّ قواه. في هذه المسرحيَّة، هناك معركة خفيَّة بين جوستاف وأدولف، وهي معركة غير عادلة لأن أدولف لا يعرف الأسباب إلا بعد فوات الأوان، وهنا بالضبط تكمن القسوة في نفس مكان الجبن. تحدث القسوة عندما لا يتم استخدام العنف ضد الشخص المعني، بل ضد شخصٍ لا يعرف معظم خفايا اللعبة وقواعدها الغامضة، التي أخفتها عنه زوجته. هنا نرى كيف تصبح العلاقة بين الدائن والمدين مشوهة، خاصة عندما يحاول غوستاف سداد ديونه القديمة من شخص بريء، وليس من الشخص الذي تسبب له في الأذى الذي عانى منه لفترة طويلة. وفي نهاية اللعبة، نكتشف أن الخاسر الأكبر في هذا الثلاثي الجهنمي هو أدولف: عندما يضعه جوستاف في موضع المدين له، وهذا في حد ذاته ليس عدلاً، لأنَّ أدولف ليس مسؤولاً عن تصرفات زوجته قبل الزواج منها، ومع ذلك سيدفع حياته ثمناً باهظاً، لشيء لم يرتكبه، وكل هذا لا يؤدي به إلى استرداد ديونه من زوجته.
ما الذي يتبادر إلى الذهن عند ذكر اسم ستريندبرغ؟ يتساءل أنطونان أرتو، ويجيب: بتصفية حسابات عملاقة بين أشخاص يتصادمون في احتجاج وتنازع مستمر. إنهم يصرخون ويقذفون في وجوه بعضهم البعض بذكريات كل الأعمال السيئة التي تنتقدهم، أفعال الماضي التي تلطخ الحاضر وتهدد المستقبل. أقول ذكريات، لأنَّ الجرائم التي ما زلنا ندفع ثمنها، والتي سندفع ثمنها، والتي نحاول جاهدين ألا ندفع ثمنها، مرتبطة بديون نأمل ألا ندفعها أبدًا، ولكنها تظهر فجأة.
كُتبت المسرحيتان في العام نفسه، 1888. كلتاهما قاسيتان بشكل لا يصدق. فالآنسة جولي تقطع رقبتها بنفس الشفرة التي استخدمها جان في ذبح طائر الكناري، وأدولف يموت بعد أن يدرك أن جوستاف كان الزوج الأول لزوجته، وأنه جاء ليرتكب جريمة قتل نفسيَّة. لقد صبَّ أوجست ستريدبيرغ كلَّ كآبته وسوداويته في هاتين المسرحيتين. فشخصياته إنسانيَّة للغاية وفخورة بنفسها، وضعفاء وأشرار ومصممون على تدمير الآخرين كما يدمرون هم أنفسهم. إنهم يبعثون على الدوار، لأنهم يعرفون بعضهم البعض جيدًا، لا يستطيعون أنْ يزيحوا أعينهم عن بعضهم البعض، لديهم أحلام، لكنها تختلط بالواقع، بحقيقة مشاعرهم. إنهم يكذبون، لا يقولون كل شيء، لا يريدون الاعتراف بما يعرفونه، ولديهم طعم الكارثة، كل منهم بطريقته الخاصة. في كلا العملين، سعى أوغست ستريندبيرغ إلى تسطيح المسافات الاجتماعيَّة، جاعلًا من شخصياته أسرى هويتهم، وَضمَنَ قصتي المسرحيتين بالتراجيديَّة النيتشويَّة، التي تدين أفرادها من خلال القيود الصارمة التي يفرضها عليهم قدرهم الاجتماعي. فالآنسة جولي تسمح لنفسها باللعب مع خادمها بالحريَّة التي اكتسبتها بفضل إحساسها بالتفوق الاجتماعي الذي نشأت عليه. أما جان، من ناحية أخرى، فهو انتهازيٌّ وسجين مهنته الخدميَّة.
جان: “فما أكاد أرى قفازه على أحد الكراسي حتى أشعر بضآلتي، وإذا سمعت دقة جرسه، قفزت من مكاني كالحصان المذعور. بل انني حين أنظر إلى حذائه منتصباً هناك في صلابة وكبرياء، أشعر بالرغبة في الانحناء والمسح”.
كما لو كان يعيش حالة من الاستجابة البافلوفيَّة، وفقًا لنظريَّة التعلم الشرطي أو الترابطي التي اخترعها العالم الروسي إيفان بافلوف، والتي يمكن تلخيصها على النحو التالي: ارتباط المثير الطبيعي بالمثير الاصطناعي يعطي المثير الاصطناعي القدرة على التأثير في المثير الطبيعي.
إنَّ رد فعل جان الغريزي عندما يسمع جرس الاستدعاء من قبل سيده هو الركض سريعًا لتلبية نداء سيده، فيحني ظهره ويشعر بالجرس كالسوط الذي يذكره بحالته المهينة. ولا يخلو الأمر من بعض ردود الفعل السخيفة والكوميديَّة؛ فهو كمن يتمرد للحظة وجيزة ثم سرعان ما يلقي بنفسه على بطنه ليسترد حذاء سيده عندما يصل هذا الأخير. وقد هيمن على كلا العرضين هاجس التفكك والانحلال، مع خلفيَّة لشبح الرجعيَّة الذي يحكم شخصيات ستريندبيرغ. بالنسبة لستريندبرغ، يأخذ كل شيء اجتماعي بعدًا ميتافيزيقيًا. فالكاتب لا يهتم كثيرًا بالصراع الطبقي، تلك الحقيقة الوحيدة التي لا رجعة فيها، بل بالفرد الذي يضرب رأسه بعنف في جدران مصيره. لا يوجد في هاتين المسرحيتين أي تحرر اجتماعي للخادم، كما أنهما لا تدعوان إلى التحرر الأنثوي. لأن كلا العرضين يدوران حول المرأة، المرأة المجنونة والفاسقة والكاذبة التي يصب عليها ستريندبيرغ جام غضبه، بنوعٍ من الإصرار والتأكيد الذي يثير الضحك والسخرية في كثيرٍ من الأحيان، ويجعلها موضع اتهام علني ومكشوف وصارخ. وسرعان ما يطرق الماضي باب الزوجة “تكلا” التي تنعم ببعض النجاح الأدبي والاجتماعي في حياتها، مذكراً إياها بالطبع بدينها السابق. كما لو أن الإنسان لا يستطيع الهروب من ماضيه، خاصة المرأة التي تمتص طاقات أزواجها الحيويَّة. وفي وسط هذه الشخصيات المحسوبة بعناية من قبل مؤلفها يوجد الزوج الثاني، الرسام الشاب الصريح الكريم الذي لا يستطيع أنْ يفلت من شرور المجتمع فيغرق في بحرٍ من الجنون ويصبح ضحيَّة لعبة لا ترحم. في مسرح أوغست ستريندبرغ، كل فرد هو أسير شبكة عنكبوتيَّة تهيمن عليه. تمارس الآنسة جولي، الأرستقراطيَّة، سلطتها الطبقيَّة على الخادم “جان”، لكنها تتجاهل رغبة جان في الانتقام، الذي يستغل الفرصة للتقليل من شأنها وينتهي به الأمر بنعتها بـ”العاهرة”.
كان لكلا العرضين الديكور عينه، مع بعض التغييرات في الأثاث والإكسسوارات. كان ديكور عرض “الآنسة جولي” مطبخًا بعيدًا قليلاً عن أضواء عيد القديس جان. أما مسرحيَّة “الدائنون” فكان عبارة عن صالون، في منتجع سكني. وهناك غرفة تطلُّ على المكان. كان لون مساحتي العملين أحمر وأخضر. أحمر كالدم، وأخضر كالطبيعة. طريق طويل وبعيد ينحدر من الأعماق، ينفتح وينغلق من خلال ستارة ترسمها أشعة الضوء، فندخل مع الشخصيات من هنا، ونخرج من هناك، ونتوقف معها في المسافة أيضاً. قام بتصميم السينوغرافيا الفنان رينو دي فونتنو، الذي قدم الواقعيَّة بطريقة فخمة تجسد بشكل سحري حالات الصراع التي تتكشف في العملين. استفاد السينوغراف من عمق الصالة لرسم خطوط ديناميكيَّة زادت من حدة الإثارة الدراميَّة، وجعلنا شهود عيان على الزوج السابق وهو يراقب ببهجة آثار السم الذي دسه في روح الفنان، “الزوج الجديد”، تماماً كما كشف لنا عن ألواح حجريَّة مغمورة بالضوء الأخضر، وكابلات حديديَّة حمراء تؤطر المطبخ، مع ملابس معلقة تتوافق مع لغة العصر، حيث وجدنا صدى للمذهب الطبيعي الذي يهيمن على مسرح سترندبيرغ. فالتراجيديَّة الطبيعيَّة، كما يقول مخرج العمل “هي العمود الفقري الذي يمكن أن يخرج العرض عن مساره، وذلك باختيار: إما أن تكون تراجيديَّة فتلغي التكامل أو الاندماج الاجتماعي للعمل، أو أن تكون طبيعيَّة فتنسينا البعد المقدس تقريباً”. ثم إن استبدال ممر الفلاحين الذي كان يقسم المسرحيَّة بسلسلة من المشاهد الحلميَّة القصيرة القويَّة المؤثرة، ودق الطبول بإيقاع جنائزي أثناء هروب العاشقين المخزي، والظهور البطيء للأرواح ذات الوجوه الشريرة على جانب المسرح، وهي تلوح بسحرها في الظلام، قد زاد من البعد التراجيدي للمسرحيَّة وأضفى عليها شيئاً من القداسة. وبهذه الطريقة، استطاع المخرج كريستيان شيريه أن يفرض زمنيته الخاصة على العرض ويلعب على أعصاب جمهوره. وقد كان هذا العرض الذي جمع عملين في عرض واحد رائعاً لدرجة أن المخرج كريستيان ومستشاره الأدبي استطاعا أن يطرقا أبواب هيتشكوك الغامضة، كما في مسرحيَّة “الدائنون” مثلاً، حيث كانت الجريمة كاملة إذا جاز التعبير. وكذلك النفاق والشراسة.