نقد مسرحي

الأداء المرن ، والتشكيل البصري الجاذب معادل موضوعي لمسرحية “الجدار”

بقلم : حمزة الغرباوي

الأداء المرن ، والتشكيل البصري الجاذب معادل موضوعي لمسرحية “الجدار”

إن التشكيل البصري الجيد للفضاء المسرحي وتلاقحه مع الأداء المرن للممثلين ، دائما ما يبشر بولادة جديدة من الممكن متابعتها والاختلاف والتوافق على مسمياتها وافعالها وتداخلاتها الاخراجية ،والنصية، والادائية ، فعن طريق هكذا ولادات مسرحية ينشأ الجدل، ويبدأ الجميع بالتفكير عن اسباب الطرح الدرامي هذا؟ وما هو الهدف منه ؟، وما الفائدة من الإجابة على اسئلته ، هل نحن اموات ام احياء ؟، قوادين ام قوادات؟، مشاهدين ام مشاهدات؟ ، مشتركين في جريمة ما، من هذه الجرائم التي طرحت أمامنا ام لا ؟ متفرجين لا نتكلم ولا نجاهر بكلمات الحق أم نخاف الفضيحة ونحبذ الستر او التستر على الفضيحة والدنس والخراب الذي حل او الذي سوف يحل في يوما ما ؟، كل هذه الاسئلة الفلسفية الوجودية تحتاج إلى إجابات جوهرية ومنطقية يجب أن يدونها المتلقين على ورقة بيضاء ويقدمونها الى مخرج العرض( سنان العزاوي) في النهاية، لأن النتيجة والحل هو ما يجده المتلقين هنا لا المخرج فهذه المغايرة الحقيقية بين المتلقي والعرض ، ممكن أن تكون سابقة فنية جديدة في الجدل الدرامي الذي يطرحه المسرح للجمهور ، فلا يقدم له الحل كما كان معمول به سابقاً ،وانما يجبره على طرح مجموعة من الحلول المبنية على ما شاهد أمامه في العرض وما يشاهده في الواقع.

عند الإنتقال الى الشكل او التشكيل البصري الذي يمثل البداية التي شاهدها المتلقين لأول مرة منذ دخولهم صالة العرض ، سوف اجد عزف على آلة بيانو وجدران بيضاء مثقوبة وفتيات ورجل ينتظر عند احد الابواب ، يبدأ العرض بأداء مرن لشخصية هجينة فيها كل ملامح التخنث، والقوادة ، والاختلال بين الجسد المادي الذي يمثل الرجل والفعل الحركي السلوكي النسوي الذي يمثل الأنثى.

بين هاتين الحالتين بداء الاشمئزاز يتسلل الى الأذهان نتيجة ما حدث وبدأت تتسابق الافكار في كيفية رجمه ، فهذا الاداء المكتنز المتمثل في شكل وفعل يعد افتتاح جوهري للعرض فهو يدل على عدمية التوافق بين الفعل والشكل ، فالمتلقي هنا يتم تهيئته الى تجربة جديدة بين الفعل والشكل ، او الاداء والتشكيل البصري المعلن أمامه ، وهذا ما حدث فعلاً في الاداء الديالكتيكي للشخصية التي قدمها الممثل (يحيى ابراهيم) ففي هذه الشخصية يوجد تحولات ادائية متعددة ومن الممكن تصنيفها على أنها تحولات منطقية جدلية لحالة نفسية او اجتماعية .

هو يقدم لنا أفعال حركية وفق اداء مرن ودال على الخنوع ، والخضوع ، والانحراف والشذوذ ، فهو يعد بمثابة محطة عبور مهمة وخاصة بكل انواع الرذيلة، وهو مستعد دائما الى استقبال الضحايا الجدد، وغالباً ما يؤكد ذلك عن طريق الشكل الخارجي المتمثل بالقرون (القوادة)، وازياء النساء القصيرة (التخنث)، واللون الاسود الغرائبي للازياء التي كان يرتديها ، وفي بعض الأحيان نشاهد سيطرة (المازوخية) على أفعال الشخصية النفسية التي تدعوه إلى أن يكون (كلباً) او (خادماً) تحت اقدام النساء.

فعن طريق هذا الاداء نكتشف أن الفعل النفسي الداخلي المريض تحول الى فعل خارجي ادائي مقبول في بعض أوساط المجتمع رغم المباشرة في طرحه دون الإشارة اليه فقط، وأجد أيضاً ان هناك امتداد تاريخي للافعال الادائية التي تؤديها الشخصية وهذا الامتداد يكمن في طرح تبرير وحجة ضعيفه مفادها أن هذا التحول لهذه الشخصية جاء نتيجة ممارسه الجنس معه في الرابعة من عمره .

ومع استمرار العرض أجد هناك أيضاً إحدى الضحايا التي تحاول الخلاص او العبور من الجدار عن طريق أداء يوهم المتلقي ويضعه بين صورتان الاولى على ماذا تدل هذه المحاولات هل هي هروب أم انتحار ام بحث ؟، فالاداء الحركي والصوتي المرن للممثلة الأم (اسراء)هنا، والتشكيل البصري الغير مألوف خلق نوع من التواصل الموضوعي مع المتلقي ، فهو بدأ يتكشف أبعاد هذه الشخصية وعلى ماذا تبحث وماذا تريد ، فالحوار كان أداة للكشف عن افعال الممثلة وأسباب حركتها.

فالممثلة الأم (اسراء) هي لم تؤدي الشخصية فقط أداءً تقليدياً قائماً على حركة وحوار متوافق مع ما هو مكتوب في النص ، وانما تم استعمال جسدها المرن في إيصال صورة الغرق مثلاً ،وصورة البحث عن بناتها ، وقد يسأل البعض هل هي حركة فائضة دون عنوان أم مقترنة بالتشكيل البصري ؟ والاجابة غالباً ما يفهما المشاهد الفاحص المتأمل طويلاً وهي كالآتي : أن الحركة الفاعلة والمرنة للممثلة جاءت بطرق متعددة ومختلفة ومؤتلفه مع فكرة النص و التشكيل البصري المعروض ، أي بمعنى آخر وبشكل أدق هي ليست فائضة عن الحاجة وانما هي اقتصادية كما وصفها (فسيفولود مايرهولد) واصفة للفعل متوافقة مع التشكيل البصري .

الدليل الآخر قد يكمن في أداء الممثلة الأخرى (رنا) الحبيبة ، إذ كان الفعل الحركي لها دال على بشاعة الجسد في نظر الحبيب رغم تودده الكاذب لها ، فهي تسرد ما مرت بها صوتاً وحركة ، تعطي عن طريق اداءها المرن صوراً حية وإشارات ورموز متعددة تصف عن طريقها حجم المعاناة التي مرت بها ، وتعطي درساً في الأداء المنضبط في الصوت والحركة .

هي لم تشتبك مع التشكيل البصري الا قليلاً ،وفي لحظات او ومضات قصيرة، إلا في نهاية المشهد عندما مزقت جسد حبيبها ، وقد يؤدي هذا الانعزال عن التشكيل البصري طوال فترة أداء المشهد الى هفوات ادائية تؤثر على منظومة العرض المنضبط بشكل عام، وقد يلاحظ أن أسس الاشتباك الاعظم كان مع الجمهور ، فهي أخذت على عاتقها تفسير البناء الدرامي للمشهد ، بداية ، حدث صاعد ، ذروة ، حدث هابط ، حل ، وقد جاء الحل بالقتل .

أما الراقصة التي جسدتها (آلاء نجم) فقد كان لها أداء خاص يتصف بالمرونة الغير متوافقة مع شكل الحدث ، فقد عبرت عن حجم معاناة بالرقص وأسست الى موضوع مفاده أن مهنة الرقص رغم عدم مقبوليتها في المجتمع الا أنها قد تكون خط وصل بين الظالم والمظلوم، والفقير والغني، والسلطة والشعب ، وهذا المعنى المنطقي للأداء في التشكيل البصري القصدي يشير إلى نتيجة تبرهن على اداء الشخصية بطريقة مقنعة تكشف المستور عن قضية خاصة جداً .

في ظل البناء الدرامي المتواصل للمشاهد المتعددة تظهر لنا شخصية تحلم أن تطير بعيدا عن الأرض قريبا من السماء ، فالممثلة (لبوة) حرصت عن طريق أداءها المرن والمتزن على تقديم (ميزانسين) راكز وشخصية لها ابعاد مختلفة عن الشخصيات الأخرى ، فقد حاكت هذه الشخصية قضية حيوية بدأت تستفحل في الاوساط الاجتماعية ، إلا وهي قضية (المخدرات) و(زنا المحارم) .

عن طريق اداء حركي يتصف بالمرونة الجسدية وتشكيل بصري يؤسس الى مشهدية تحمل دلالات ورموز سيميائية ،وقد بدأت تتضح ملامح الدور وبدأ المخرج (سنان العزاوي ) يحول جسد الممثلة الى أداة مرنة لتمرير ما يحتويه النص المسرحي من قضايا محورية تخص زنا الاخ مع اخته وهي في حالة خدر وخداع مضمونه الطيران ، وانجاب طفل غير شرعي ، والقاءه في الخارج نتيجة غياب الوعي والإدراك الناتج عن جراعات المخدرات .

في ظل هذا الأداء والتشكيل الجسدي المرن للممثلة(لبوة) أجد هناك تكرار غير مبرر في بعض مناطق الاداء التي قصدها المخرج ، وهي قد تكون محاولة لخلق نوع من الغرائبية في اداء الحوار المقرون بحركة فائضة ، وأجد أيضاً أنا كمتلقي أن هناك أداء مرن لممثلة أخرى حاولت إثبات نفسها بقوة عن طريق اداء ديناميكي للصوت والجسد .

الممثلة (رهام) التي جسدت شخصية البنت التي تتعرض الى ظلم كبير من قبل أبيها ، وهو يحاول استغلال جسدها من أجل إشباع غرائزه الغير سوية ، فعن طريق هذا الحدث والفعل الدرامي أجد أن الممثلة قد كان لها دور كبير في وصف تلك الحالة وتقديمها درامياً للمتلقين ، وقد جاء هذا التأثير نتيجة القدرة على ضبط الاداء مع التشكيل البصري المعول عليه .

هي حاولت استغلال مناطق الإضاءة والديكور التي رسمها المخرج ونفذها السينوغراف ، واستغلال عنصر (القسوة) الذي نادى به (انطونين ارتو) في مسرحه، بطريقة تخللتها عناصر الدهشة والابهار ، وعلى الرغم من هذا الإبهار أجد هناك بعض الاساليب الادائية التي يفترض أن يتم الإشارة لها دون تكررها دائماً حتى لا تفقد قيمتها ، ومن بين هذه الأساليب الادائية هي محاولة ضرب (البطن) باستمرار رغم علمنا نحن كمتلقين أنها تحاول اسقاط الجنين ، ومحاولة الصراخ المستمر أيضاً .

في المجمل أجد أن العرض المسرحي (الجدار) هو محاولة جيدة و جديدة تم تسخير كل الإمكانات لها من أجل أن تظهر بهذا المستوى من التشكيل البصري المبهر والأداء المسرحي المرن والمنضبط ، وهذه اسوة حسنة يجب أن يتم تعميمها على جميع العروض المسرحية المقدمة في بغداد ، ومسرح المحافظات خصوصاً ، لأن مسارح المحافظات تفتقر الى ابسط وسائل العرض المسرحي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى