الكريوغرافيا .. تصحيح مساراتها الجماليَّة

الكريوغرافيا .. تصحيح مساراتها الجماليَّة
تفشّت أنواع عروض الأدائيَّة الفنيَّة وعروض ما بعد الدراما على خشبات مسارحنا لتصبح سمة غالبة لعروض موسمنا المسرحي وأعني من ضمنها عروض الجسد او “الكريوغرافيا” وتنحت كثيراً العروض الدرامية المسرحية بشكلها التقليدي المعروف المتكئ على نصٍّ دراميٍّ صريحٍ ومعلنٍ في بنائه الفني المبني على الكلمة، مما جعل هذه العروض التي تنجز بظرف أسبوعين أو ثلاثة في أقصى الآماد، وتصنع لها سينوغرافيا متواضعة وتقدم على خشبة المسرح.
عروض يملأها التكرار الجسداني البصري وبقع الضوء الرتيبة والموسيقى وضوضاؤها التي تصم الآذان الآتية من ميلوديات عالمية معروفة ومسموعة وليس فيها ابتكار أو جدّة وتقوّضت بفعل هذه العروض التواصليّة والتشاركيّة مع المتلقي، إذ بقيت تدور في فلك اللا معنى. وإذا سلمنا بوجود معنى فإنّه مجتزئ أو فائض القيمة غير مولّد لبنية تراكميّة تأويليّة لرسائل الباث الذي أمسى يقرأ رسائله وحده.
أصبحت هذه العروض هي السائدة، ولها القدح المعلى واليد الطولى في تمثيل مسرحنا في الداخل والخارج، لست ضد أحد أو ضد هذا اللون المسرحي أو ذاك، ولكن أرنو لاستمراره على وفق ضوابط ومحددات فنية وفكرية تسهم في اثراء الحركة المسرحية في بلادنا وتمنح المتلقي فرصة التأمل والبناء الذهني المنظم والقدرة التأويليّة المبنية على وفق أنساق ومرجعيات ثقافية.
لذا أجد أنّ من المفترض لهذه العروض أن تتكئ على نصوص قارة وماثلة في الوعي الجمعي لدى المتلقي ليتم انتاج نص بصري موازٍ للنص الدرامي، ولا بأس من التعالق والتناص مع النصوص العالميّة كهاملت ومكبث وعطيل والملك لير لشكسبير وطائر البحر أو الشقيقات الثلاث أو بستان الكرز لتشيخوف أو عربة اسمها الرغبة لتنسي وليامز أو “المفتش العام لغوغول” أو من التراث الرافديني كملحمة جلجامش أو رثاء أور وغيرها. تلك النصوص والمدونات الراسخة في ذاكرتنا ووعينا الجمعي وانساقنا الثقافية المشتركة لتحويلها الى نصوص أو سيناريوهات بصرية جسدانية لوضوح الحكاية ومقاصدها وإشاراتها وثيماتها، وتبرز براعة التحويل من المواضعات الدرامية إلى الجسدانية، موهبة الكريوغراف الفنان الذي سيحول علامات النص الأدبية وإرشاداته الى فعل حركي مرئي وسمعي يستند لأفق ومنظور جديدين من القراءة والرؤية، كما شاهدنا مؤخراً في العرض الكريوغرافي الايطالي المعنون “اوفيليا” المستند إلى نص “هاملت” لـ “شكسبير” والذي شاهدناه في مهرجان بغداد الدولي الخامس للمسرح والذي تحولت فيه “اوفيليا” إلى مركز باث للدلالات والرسائل الجديدة على وفق حساسية وقراءة جديدة للعالم اليوم. وتساوقاً مع ما ذكرنا يقول الباحث الامريكي “مارفن كارلسون” في كتابه الشهير “فن الأداء” ما نصه: “وسنتذكر دائماً وبشيء من الغبطة أن شخصية (ابسن- نورا) في مسرحية (بيت الدمية) قد قدمت بعد ذلك بقرن كامل أداءً راقصاً لرقصة “التازانتيلا” في حفلة الكريسماس المشؤومة التي أقامتها”، ولنا تجارب قليلة ومحدودة في تحويل المسرحيات الدرامية الراسخة في وعينا الى مسرحيات صامتة أو كريوغرافية وكان اول من بدأ يحرث في هذا المضمار المخرج والكاتب الراحل جواد الحسب في مسرحية “ماريونيت مكبث عام 1998″، والتي تم عرضها في فضاء منتدى المسرح ومن ثم أردفه المخرج والممثل الايمائي انس عبد الصمد في عروض “عطيل” و”يس غودو” والعرض الأخير شكل علامة فارقة في عروض المسرح الايمائي الصامت المتكئ على مسرحية “في انتظار غودو” لـ “بيكيت” وبتوظيفه لمنظومة المؤثرات الصوتية في العرض المسرحي بشكل متفرّد ومائز.
أما النسق الآخر والسبيل الذي يمكن أن يخوض فيه فنان الكريوغراف في ضوء تفعيل مخيلته الجمالية بالاندغام مع العروض الدرامية المسرحية التقليدية بالتشارك والتشاور مع المخرج المسرحي في ملء فجوات العرض وبياضاته التي تحتاج الى الايقاع الحركي والجسداني الراقص والتصعيد الايقاعي الصوتي المسموع والتعبير الايمائي عن “ثيمة” محددة في سياق العرض. ولنا شواهد عديدة في مسرحنا العراقي المعاصر اذكت هذا التعاون بعروض لافتة وغنية في محتواها الفكري والجمالي اشتركت فيها الكلمة وصوتها مع الجسد الايمائي الراقص لتوليد بنية جمالية وفكرية “كولاجية” متنوعة في منظورها الفلسفي ورسائلها فضلا عن عنصري المتعة والتشويق اللذين اكتنفاها وذلك بالاستناد والتفاعل مع نصوص درامية قارة وثابتة كعروض مسرحيات “عرس الدم” للمخرج كاظم نصار، و”ذهان” للمخرج احمد حسن موسى، و”الليلة المقدسة” لقاسم زيدان، و”ساعات الصفر” لحازم كمال الدين، و”سيفور كلواذا” لابراهيم حنون، و”تاء التأنيث ليست ساكنة” لمروة الاطرش وغيرها. وكان القاسم المشترك لهذه العروض في إنشاء نسقها الجسدي والايمائي الراقص الفنانين “الكريوغراف”: “ضياء الدين سامي وحازم كمال الدين ومرتضى نومي” بفواعل جسدانية جديدة تمكنت من تجسيد بعض ما لم تستطع الكلمة التعبير عنه وعكسه فنياً على خشبة المسرح.
أخيراً، تبقى العروض الجسدانيَّة من دون دراماتورج أو مستشار أدبي يحقق ويدقق في البناء البصري والسينوغرافي وينظم تراتبيته المشهديَّة ستظل هذه العروض عائمة ومحايدة وغامضة في مبناها ومعناها مشكلة قطيعة ابستمولوجية وجمالية مع المتلقي الذي يخرج غالباً من هذه العروض وقد التبست المعاني عليه وضاعت عليه القيم الفكرية والفلسفية في فلك التصورات البصرية المستقلة، والتي لا ترتبط بمرجعيات درامية وثقافية معروفة.
بقلم : د. سعد عزيز عبد الصاحب