كيف لنا أن نعيش وسط مدينة خانقة،ونحن محصورون داخل هذه الجدران الأربعة؟

كيف لنا أن نعيش وسط مدينة خانقة،ونحن محصورون داخل هذه الجدران الأربعة؟
” لم أكن في العاشرة من عمري عندما ذهبت إلى شاطئ البحر مع والدي. في كل مرة كنت مفتوناً بمشهد الأضواء الكثيفة والرائعة، وكان بخار الماء المتصاعد منها يبدو لي وكأنه شيء إلهي. كان هناك نوع من الجبال المغطاة بالثلوج، وتخيلت أنها مدينة ملاهٍ كبيرة، ولكنني أدركت بعد ذلك أن مدينتي لم يكن بها ثلوج ولا جبال. لقد كانت مدينة مسطحة، وكان ذلك الضوء الخادع في الحقيقة أسوداً كالفحم، و”كان هذا المكان معبداً للموت” . مسرحية “البخارة” للمخرج والدراماتورج صادق الطرابلسي، عن نص اشترك في كتابته مع إلياس الرابحي.
لقد أصبح إنتاج المسرحيات التي تسلط الضوء على مشكلة التلوث الكيميائي أمرًا في غاية الأهمية في هذا العصر. فالتلوث الكيميائي له آثار مدمرة على البيئة وصحة الإنسان، لكن موضوع مسرحية “البخارة” لصادق الطرابلسي، قد يكون معقدًا ويصعب فهمه بشكل كامل، دون قراءة أو معرفة الحيثيات الخاصة به، لا سيما أنه يتحدث عن واقع حال عاشته وتعيشه مدينة قابس التونسية، التي تحولت بفعل انشاء المجمع الكيمياوي، وهو مجمع (حكومي تأسس سنة 1972)، من مدينة ساحرة إلى مدينة مبتلاة بالغازات، وإفراز مادة سامة وضارة تعرف باسم “الفوسفوجين” التي لا تظهر مباشرة إلا بعد استنشاقها بتركيزات عالية والتي يمكن أن تؤدي إلى الموت.
يتمثل أحد الأهداف الرئيسية لهذا النص/العرض في استكشاف كيف يمكن للمسرح أن ينتج و/أو يتيح أشكالاً جديدة من الإدراك الإيكولوجي والاجتماعي والسياسي. لا يعني هذا القول أن المسرح هو وسيط إيكولوجي في جوهره، أو أنه أكثر إيكولوجية من الوسائط الأخرى مثل السينما أو الرسم. لكن من المهم استكشاف الجوانب البيئية المحددة التي يمكن للمسرح أن ينقلها، خاصة عندما يتحرر من عبء السرد القصصي ليسمح لنفسه باستخدام أنماطه الخاصة للمعنى. وهذا ما يدعونا للحديث بشكل خاص عن البعد الفرجوي للعرض، الذي، كما يذكرنا أصل كلمتي “ثياترون” و”متفرج”، يستهدف العين بقدر ما يستهدف الأذن. وبعبارة أخرى، أريد أن أؤكد على سحره المسرحي. خاصة وأن هذه المسرحية هي فرصة لإظهار تأثير هذا التلوث على الحياة اليومية للأفراد والجماعات والحيوانات، ومياه البحر، وكل ما هو من ” لحم ودم”. وتحقق ذلك من خلال استخدامها للفن والتعبير المسرحي، الذي يمكنه أن يلامس المشاعر والأفكار بطريقة فريدة من نوعها. فهي تسمح للجمهور بالتفاعل مع القضية والتفكير في الآثار البيئية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية للتلوث الكيميائي. وبالتالي، تتيح لنا الفرصة للتعبير عن مخاوفنا. لأنه لم يعد من الممكن إنقاذ الأرض بأنصاف الحلول، من خلال الترقيع والتلاعب بالقواعد والممارسات والعادات، وسواء أحببنا ذلك أم لا، فإن الأزمة الإيكولوجية هي أزمة قيم. وفي هذا المجال، فإن للفنون والعلوم الإنسانية – بما في ذلك المسرح – دور في هذا المجال، لا سيما أننا قد تجاوزنا مسبقاً المرحلة التي يمكن فيها تصحيح الأمور من تلقاء نفسها.
إن البخارة كعمل لا يتعامل مع هذه المسألة بشكل تقليدي، رغم أنه في شكله الظاهر ينطلق من موضوع محلي ويطرح المسألة من وجهة نظر عائلة تونسية تتألف من اربعة افراد: المولودي (رمزي عزيز) وابنه نضال (علي بن سعيد) وابنه يحيى (بليغ مكي) وزوجته دلال (مريم بن حسن)، وشخصية صاحب المعمل الخامسة (بلال سلاطنية) الذي لا يعيش معهم، ولكنه السبب الرئيس في انهاك واختناق هذه الاسرة، التي تأخذ في المسرحية بشكل استعاري شكل المدينة، الوطن وحتى العالم طالما أنه يعاني هو أيضاً من التلوث، وهنا يكمن بعدها الكوني.
منذ اللحظة الأولى، يغرقنا العرض في جو غائم ضبابي لا نرى من خلاله سوى كائنات بشرية تسبح في بحر من الدخان والسموم النتنة؛ أشباح تخرج من خلف أبواب معتمة تبحث عن الشمس، عن الضوء الذي كان موجودًا واختفى؛ أشباح تحاول أن تعثر على نفسها وسط هذا الضباب الذي بسببه لم يعد يرى احدهم الآخر بوضوح، يتقدمون إلى وسط وجوانب المسرح بحركات تعبيرية بطيئة، تمنح المشهد قدسية وخوف والتباس. احدهم يغطي وجهه بردائه، وآخرون يتحركون بطريقة توحي لنا أنهم فقدوا توازنهم على الأرض، التي لم تعد أرضاً، بل فضاء كوني غير مستقر، وكأنهم على سطح مجرة سماوية خيالية بعيدة، تطأها أقدامهم لأول مرة وليس بيتهم. وفي خضم هذه الآلية الحركية، والاهتزازات الجسدية، وجلوس القرفصاء أو القعود على الأرض، يصرخ المولودي الأب، من حين لآخر ” أين الشمس؟ وتدريجياً، يعودون من حيث ما أتو، ليؤثثوا خشبة المسرح بأريكة صغيرة يتم إدخالها ببطء من أحد الأبواب القريبة من وسط المسرح، ومروحة سقف تنزل من أعلى المسرح، ثم تبدأ لعبة ضبط صورة التلفزيون، التي يصعب رؤيتها، لأنه في حالة تشويش مستمرة، وصورته غير مستقرة وعير واضحة، مثل حالتهم تماماً، والزوجة دلال تريد مشاهدة آخر الحلقة الأخيرة من المسلسل الذي اعتادت على مشاهدته، ويصاحب كل ذلك موسيقى خلفية تزيد من حدة الحيرة والغموض. اعتمدت المؤثرات الصوتية المستخدمة في محاكاتها للأحداث نظاماً ثرياً من المؤثرات التي وضعتنا في حالة من الاختناق والضجيج الذي تسببه معامل المدينة، والتي ضاعفها مصمم الموسيقى (وضاح العوني) بمقاطع موسيقية ساخرة.
بقلم : محمد سيف