المنظومة الضوئية وتغير المكان .. علاقة جدلية تؤثر في العرض المسرحي : محمد الحمامصي
السينوغراف علي محمود السوداني: الإضاءة عنصر مهم يضمن انصهار مختلف عناصر العرض المسرحي.

علاقة السينوغراف بالضوء علاقة وثيقة جدا، منه يصنع ملامح العرض المسرحي ويحرك فكر المتلقي، هذا ما يؤكده علي محمود السوداني السينوغراف العراقي الذي جمع بين التكوين الأكاديمي والموهبة المميزة والمراكمة للتجربة المهنية والمواكبة المستمرة لما ينجز من أعمال مسرحية عربية وغربية، وصار له نهجه الخاص وقراءته المختلفة لما يقدمه المسرح العراقي بالأساس.
تعتبر الإضاءة أداة قوية لتشكيل وإعادة تعريف المكان على خشبة المسرح، حيث يمكنها أن تخلق حدودًا مرئية تفصل بين مناطق مختلفة على الخشبة، ما يوحي بوجود غرف أو مواقع مختلفة. فمثلا، يمكن تسليط بقعة ضوئية على منطقة صغيرة لتمثيل زاوية حميمة، بينما تُترك بقية خشبة المسرح في الظلام للإيحاء بمساحة أوسع وغير محددة. أيضا من خلال التحكم في شدة الضوء وزواياه، يمكن إعطاء إحساس بالعمق ثلاثي الأبعاد للمشهد المسطح، أما الإضاءة الأمامية والخلفية والجانبية فتخلق ظلالًا وتبرز الملامح، ما يضيف واقعية إلى المكان.
إن هذه التقنيات ليست مجرد وسيلة لإضاءة خشبة المسرح، بل هي أداة فنية قوية يمكن لمصمم الإضاءة استخدامها لخلق عوالم بصرية متنوعة والتأثير على تجربة الجمهور بشكل كبير.
من هذا المنطلق، يسلط الناقد والسينوغراف العراقي علي محمود السوداني في دراسته “المنظومة الضوئية وتغير المكان في العرض المسرحي” الضوء على المتغيرات المكانية من أجل خلق منظومة ضوئية مناسبة حسب المكان المتغير، من خلال دراسة المكان والمنظومة الضوئية في العرض المسرحي والمتغيرات المكانية وعلاقتها بالمنظومة الضوئية، ليحلل بعد ذلك ثلاثة عروض مسرحية هي: “مسرحية روميو وجولييت” المأخوذة عن مسرحية شكسبير وإخراج مناضل داوود وسينوغرافيا جبار جودي، ومسرحية “غريم الورد” لعقيل مهدي وإخراج وسينوغرافيا د. قاسم مؤنس، ومسرحية “الموت والعذراء” للكاتبة الألمانية إيزابيل دورفمان، وإخراج إبراهيم حنون وسينوغرافيا فلاح إبراهيم.
لوحة صورية

يرى السوداني أن “خشبة المسرح عبارة عن تشكيلات صورية، إنها لوحة عليها تتحرك العناصر في منظومة متقابلة ومتعارضة، من حيث الحجوم والألوان والإنشاء التصويري، فضاء العرض حافل بالدلالات المعرفية والذهنية للمتلقي عبر الرموز التي تتطلب التركيز على ما هو أكثر أهمية من استخدامه للمبدأ والتي تتحقق بواسطة العناصر البشرية والبيئية من إضاءة وديكور وجزئيات، ما يتطلب من القناعة أن ينوء بالحمل الأكبر من خلال محاولة خلط كل العناصر وإدماجها في بنية صورية مركبة وهذه البنى تتحرك وتتغير باستمرار لتشيد بعد ذلك معمارا مسرحيا متحركا.”
ويوضح أن ما يقوم به المخرج “هو عملية تهدف إلى تنسيق العناصر المرئية ضمن اعتبارات مكانية ومعمارية من شأنها أن تحدد رؤية المشاهد من خلال المسافة بين المشاهد والعرض ثم زاوية النظر وأخيرا مستوى النظر وهذه بمجملها محكومة بمعطيات مكانية العرض وأسلوب المعالجة الإخراجية الذي يختلف من عرض إلى آخر.”
ويشير السوداني الذي شارك كسينوغراف في العديد من الأعمال المسرحية العراقية، إلى جانب أشهر المخرجين العراقيين، إلى أن “العرض المسرحي يتعلق بقدرة الصورة على التضمين حينما تتشاكل مع المحيط المسرحي في عناصره المختلفة من أجل معنى في الفضاء بتوظيف كل التقنيات لهندسة فضاء العرض في تشكيل الصورة النهائية له.”
ويوضح أن “المكان المسرحي يضم مجموعة من عناصر الحيز العام، هي المساحة والارتفاع والكتلة بما في ذلك جسد الممثل ككتلة متحركة وكتل الديكور والضوء واللون بما يسهمان فيه من تشكيل بصري، إلى جانب حركة الضوء والمؤثرات البصرية والفراغ بما يوحي فيه من علاقة بين الكتلة ويسهم في تشكيل المكان والحركة والفعل الدرامي. إن المكان المسرحي افتراضي يكتسب قوة تعبيرية بإثارة ذهن وخيال المتلقي فهو يترجم الأفعال الدرامية إلى لغة صورية يتم فيها إدراك صورة الفضاء على نحو كلي وفق العناصر التي تشكل الإضاءة، الديكور، الأزياء، الإكسسوار، الموسيقى، الماكياج، فتنتج مجموعة من الدلالات والتراكيب الصورية المختلفة تحول المكان إلى حقل دلالي، أي أن الوظائف الجمالية والدلالية للضوء والظل واللون تحوّلت من محض عناصر تكميلية ثانوية إلى عناصر بناء فاعلة. المكان في العرض ينتمي إلى عالم من المعطيات غير البديهية المليئة بالافتراضات التي تقدم إلى المتلقي تراكيب صورية متعلقة بالمفهوم الجمالي والفلسفي للعرض، كون فضاء العرض حافلا بالدلالات المعرفية.”
عالم حسي موحد

يرى علي السوداني أن “الإضاءة أصبحت عنصرا يضمن انصهار مختلف عناصر العرض فهي مصدر الإيقاع ولم تعد إطارا للأحداث فحسب، وتركز الإضاءة على الواقع التشكيلي للفضاء المسرحي وتعطيه إمكانية تعبيرية كبيرة من خلال الاشتغال بالحزم الضوئية فتسهم في خلق الجو الذي يرمي إليه الديكور، كالإيحاء بجو الغابة بواسطة إضاءة تشبه أشعة الشمس من خلال الأشجار أو الليل والنهار. والإضاءة يمكنها أن تعوض التصوير الزيتي في خلق الديكور بالضوء أو بواسطة الظلال، كأن نضع ظل شجرة على الخشبة عوضا عن رسمها. وتجسم الإضاءة العلاقة الموجودة بين الشخوص والمسافات التي تفصلها كما رمز لعواطفها، فالإضاءة تصبح مترجما للأحداث إذ تتابع في تطورها.”
ويضيف أن “المسرح يقوم على فنون زمان وفنون مكان، فالفراغ المسرحي بمستوييه الأفقي والرأسي يجب أن تقوم الإضاءة بتحويله إلى عالم حسي موحد، وفاق بين الزمان والمكان، فهي تساير الحالة النفسية للشخوص أو تركز عليها والتي تتوفر فيها عناصر الرؤيا أي جسم، مصدر، إضاءة، لذا يعد إدوارد جردون كريج فن المسرح موجها في المرتبة الأولى إلى البصر، وعلى هذا يكون المشهد هو كل ما يواجه العينين كالظل والضوء والديكور والمشهد نفسه فضلا عن العين التي تكون المستقبل لهذه المعادلة أو العملية والموازن لها. كما يمكن للإضاءة العادية أن يكون تأثيرها بسيطا في شد انتباه المتفرج عكس الإضاءة التي تكون مساقطها مائلة أو عمودية أو ذات درجات خافتة أو قوية أو نوع اللون وشدته فهذه الأمور تسهم في إعادة تفسير وقراءة المشهد لدى المتلقي وإثارة جملة من التساؤلات لديه، بشرط أن يتوافق عمل الإضاءة وتصميمها مع محتويات ومكونات وأحداث واقع الفعل الدرامي، وعدم التوافق سوف تكون له تأثيراته السلبية على صورة المشهد أي أن تصميم الإضاءة محكوم بحدود موضوع الحدث القائم بعملية الإدراك الحسي والبصري.”
ويتوقف الناقد العراقي بالتحليل مع عناصر المنظومة الضوئية، التي تشتغل في العرض المسرحي وآلية تحكم الضوء في التشكيل البصري للعرض، وهي “أولا الكثافة، ثانيا التباين (نوع ولون وحجم وطبيعة وحجم السطح)، ثالثا التوازن، رابعا التكوين، خامسا الإيقاع، سادسا التحكم بالضوء، سابعا الشدة والتوزيع.” وينتقل بعد ذلك إلى المتغيرات المكانية وعلاقتها بالمنظومة الضوئية، حيث يرى إن “الإضاءة والديكور تشغلان في المكان وتؤثران بشكل كبير جدا بخاصة في المكان غير المخصص للعرض المسرحي، إذ تؤدي الإضاءة دورا مهما في تأثيث هذا المكان وجعله صالحا للمسرح من خلال اشتغال الضوء بشكل عال ومتقن في تحديد مكان العرض وتحديد بقعة التمثيل، والشكل البصري هو الأشياء أو المفردات المستعملة فوق خشبة التمثيل، ولها وظيفة مسرحية ودرامية كبيرة برفقة الإكسسوار الذي يكون له اشتغال مهم مع الإضاءة على الخشبة.”
ويلفت السوداني إلى أنه “أثناء العروض تتوالد علاقة قوية ما بين المكان والضوء، إذ أن المكان المسرحي هو عامل للكشف عن خواص الضوء تماما كما هو الضوء عامل للكشف عن خواص المكان ومعطياته، وهذه العلاقة هي سر نجاح الضوء في المسرح على اعتبار أن المكان يفقد قيمته دون ضوء، وهذه العلاقة التبادلية تكون عكسية إذ يرتبط حجم المكان مع الضوء عكسيا فكلما زاد حجم المكان قل حجم الإضاءة إلى زيادة حجم وكمية الضوء، إذ يحتاج المكان إلى جزيئات أكبر من الضوء لملئه لأن الغرفة الكبيرة يعجز المصباح الصغير عن إنارتها بصورة جيدة.”
الضوء هو القائد

هنا يستدل الناقد المسرحي على ما يقول إنه “حقيقة مهمة” وهي “أن الفضاء المسرحي قابل للتغيير من تلقاء نفسه وأنه هنا من أجل أن يغير من منظره باستمرار، والتغيير هنا قد يكون من خلال حركة الضوء المتناوبة والمتغيرة أو حركة الممثلين أثناء العرض وحتى في الحياة اليومية، إذ أن الإنارة في البيوت وثباتها قد تخلق نوعا من الأمان، وعند الانطفاء والتحول إلى الظلمة نجد المكان قد تحول إلى عالم آخر. من خلال هذه الحركة البسيطة يمكن أن نعد هذا النوع من أنواع الحركة أو الديناميكية التي يعيشها المكان نفسه فضلا عن التغييرات في الديكور وتنقلاته والتي تتشكل من خلال مجموعة العلاقات ومجموعة التشكيلات والتكوينات وعدم الثبات التي يعيشها المكان خلال العرض والتي تشترك وتسهم في تطوير منظومة العرض التي تدعو إلى التقارب والتناسق في مختلف المستويات.”

ويؤكد الناقد العراقي في كتابه “المنظومة الضوئية وتغير المكان في العرض المسرحي” على ضرورة أن “يتناسب التوزيع لمنظومة الضوء مع حجم فضاء العرض بصورة عالية ودقيقة من أجل الوصول إلى مشاهد أكثر تأثيرا من تلك الخطوط ودلالاتها والشكل وتكويناته. إن الخبرة الفنية لدى المخرج والمصمم المحترف تسهم بإنتاج بدائل للشكل المسرحي في حالة تغير المكان. إن العروض التي تقدم في مسارح العلبة تكون النتائج الفنية فيها أفضل من القاعات والفضاءات الأخرى من حيث الإيهام والتأثير الجمالي والفكري إذ يكون أكثر من العروض التي تعرض بالأماكن الأخرى.”
ويشير إلى أن “تباين مستويات الإضاءة وحركتها المستمرة بتغيير شكل المكان وبناء المشهد فكريا يخلق تنوعا مستمرا في تدفق الشكل البصري للعروض المسرحية. الضوء قادر على قيادة العرض داخل المكان من خلال تحديد مناطق العرض في بث دلالاتها الفكرية والجمالية من خلال الموازنة بين عناصر العرض والعمل بانسجام كبير.”
ويكشف أن لـ”معمارية المكان تأثير كبير على توزيع المنظومة الضوئية ويكون لها ـ المعمارية ـ التأثير الكبير في تحديد حجم قطع المنظر المسرحي وعدد قطعه واشتغال المنظومة الضوئية معها، فقد تكون المسارح غير مخصصة للعروض المسرحية الأكاديمية أو أن أنواع الأجهزة التي تستخدم في هذه القاعات تكون معدة لأغراض استعراضية وليست أعمالا مسرحية كما في العرض المسرحي ‘الموت والعذراء‘ و‘غريم الورد‘.”
ويتابع أن “اختلاف فضاءات العرض من حيث الشكل المعماري يدعو إلى إعادة صياغة شكل العرض الواحد عند نقله لفضاء مختلف عن بيئته الأولى، لأن لكل مكان خصوصيته التي يتمتع بها من طريقة بنائه أو طريقة توزيع جلوس جمهوره وتلقيهم العرض وبذلك يتطلب تغيرا آخر في المنظومة الضوئية كما في عرض ‘روميو وجولييت‘ في الدوحة وعرض ‘غريم الورد‘ في أوكرانيا وعرض ‘الموت والعذراء‘ في تونس وبغداد. إن العروض في الفضاءات المفتوحة والواسعة تحتاج إلى أنواع خاصة من آلية اشتغال مختلف للمنظومة الضوئية واللون من حيث الشكل والقوة والشدة والبراقية، هو بإنتاج مدى من الرؤيا يتلاءم مع حجم الحدث أو شكل الفعل والمشهد كما عرض ‘الموت والعذراء‘ وعرض ‘غريم الورد‘.”
المصدر : العرب