مقالات

من ظلال الغياب إلى وهج التمجيد : هناء عطية

من ظلال الغياب إلى وهج التمجيد

(تأملات في مصير الفنان العراقي بعد الرحيل)

إلى روح الفنانة التي أحببتها واحترمتها بصدق الدكتورة إقبال نعيم وإلى كل من حمل شُعلة الفن في هذا البلد من الحاضرين في صمتهم أو الغائبين في وهج ذكراهم هذه الكلمات تُمَد من القلب لا لتُرثي بل لتفتح باب التأمل في ما لا يُقال إلا بعد الرحيل.

في كل مرة يُشيع فيها فنان عراقي إلى مثواه الأخير تهب فجأةً رياح الاعتراف فيتدفق الكلام وتُستعاد الصور وتُستعرض المنجزات وتُضاء فجأةً تلك الزاوية التي ظل فيها الفنان معتماً لعقود وكأن الموت هو شرارة الاحتفاء والغياب وحده يُكسب الحضور صفة الضرورة، ما يجعلنا أمام مشهد متكرر لا يمكن للضمير الثقافي أن يقف موقف المتفرج عليه والمسألة لم تعد مجرد ردة فعل وجدانية على فقدان شخصية فنية بل أصبحت ظاهرة متكررة تستدعي التأمل في آليات الذاكرة الجمعية وفي صيغ الاعتراف المتأخرة وفي مفارقة التمجيد بعد الصمت الطويل.

يبدو ان الفنان العراقي وكأنه كُتب عليه أن يقتات من ظل ذاته وأن يحمل منجزه كمن يحمل تابوتاً على كتفه وهو حي فلا أحد يراه بوضوح إلا حين يُوضع في القبر وتتجلى هذه المفارقة القاسية حين نلاحظ أن كثيراً من الفنانين عاشوا مهمشين ومقصيين أو في أدنى تقدير منسيين ثم فجأة وبعد الرحيل يتسابق الافارد أو المؤسسات الثقافية على ذكرهم وتنتشر مقاطع أعمالهم وتُكتب عنهم المقالات بكلمات ثقيلة تنضح بالندم ولكن هذا الندم غالباً ما يكون نرجسياً، اي ندماً على ما فات المجتمع من فرصة التماهي مع فنانٍ كان يمكن أن يكون رمزاً وهو حي لا فقط أيقونةً وهو في الكفن، ولذلك يمكننا القول بان التمجيد بعد الموت ليس بالضرورة احتفاءً حقيقياً بل قد يكون اعتذاراً مؤجلاً أو محاولة متأخرة لإبراء ذمة ثقافية ولكنه أيضاً في وجهه الآخر يعكس خوف المجتمع من نسيان نفسه فيحاول عبر استذكار الفنان أن يُعيد ترتيب ذاكرته التي بدت لفترة مشوشة وهنا بالضبط يكمن التناقض الفلسفي فنحن لا نُمجد الفنان لأنه رحل بل لأن رحيله أيقظ فينا شعوراً بالفقد وهذا الشعور بالذات يذكرنا بأننا لم نكن أمناء تجاه من أعطانا روحه على الخشبة أو في الكاميرا أو على اللوحة ثم مضى بصمت، وإذا كانت حياة الفنان العراقي في كثير من الأحيان هي سيرة مقاومة، مقاومة للتهميش والفقر وقلة التقدير فإن موته يتحول إلى مسرحٍ أخير يُمثل فيه المجتمع دور الندم الجماعي فنراه يُنصب الفنان(رمزاً وطنياً) بعد أن أنكر عليه لقب (فنان قدير) في حياته ثم يتم تداول صوره مع عبارات مثل ( لن يتكرر) وغيرها الكثير، وكأننا نشهد محاولة محمومة لاحتكار قيمةٍ لم تُمنح له في حياته بل انتُزعت منه لتُعطى اسمه فقط بعد أن صار الاسمُ مجرد شاهد قبر، وبالتالي فان هذه الديناميكية تعكس أزمة أعمق من مجرد نسيان فرد أو إهمال منجز لإنها أزمة نظام رمزي لا يعرف كيف يحتفي إلا بالراحلين وكأن الاعتراف الحقيقي لا يمكن أن يُمنح إلا لمن لا يستطيع الرد عليه فالتمجيد حين يأتي بعد الغياب يحمل في طياته مفارقة أخلاقية إذ يُحول الفنان إلى أيقونة بلا سياق وإلى صورة تُستخدم لا كصوت يُسمع وكأن الموت يمنح الفنان نوعاً من (الطُهر الثقافي) فيغدو رمزاً بلا شوائب فقط لأنه لم يعد يشكل تهديداً لمركزية المعايير الجمالية أو الأخلاقية السائدة،  ولعل ما هو أكثر إيلاماً في هذه المعادلة أن الفنان نفسه يدركها بوعي داخلي مرير بل ويتنبأ بها أحياناً وذلك بانه يعلم أن وجوده على الخشبة أو في اللوحة أو بين الكلمات لن يُرى حقاً إلا إذا غاب وأن صوته لن يُقتبس إلا إذا صمت إلى الأبد وأن روحه لن تُفهم إلا بعد أن تنفلت من جسده ما يعني ان هذه المعرفة المأساوية لا تنفي عنه الحياة لكنها تجعله يعيش على تخومها كائناً مشدوداً بين الحضور والغياب بحيث يرقب موته الرمزي وهو يتقدمه لا كحدثٍ مفاجئ بل كظلال تسبق خطاه في كل ظهور

وفي خاتمة هذا التأمل لا أطلب من المجتمع أن يُقيم جنازةً باذخة لكل فنان ولا أن يُقيم له تمثالاً في كل زاوية بل أن يُعيد النظر في بنيته القيمية التي لا ترى الفنان إلا حين يختفي والتي لا تسمع صوته إلا حين يخفت وربما يكون السؤال الأهم الذي أطرحه في هذه التأملات هو متى نمنح الفنان لحظة اعترافٍ حقيقية قبل أن يُغلق الستار؟ ومتى يكون الاحتفاء وعداً للحياة لا نعياً مؤجلاً؟ وربما عندما نجيب عن ذلك قد نخرج من ظلال الغياب ونكتشف أن وهج التمجيد لا يجب أن يكون ثمرة الموت بل ثمرة الحب الحي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى