التكاملية في العرض المسرحي الرقمي / د.محمد حسين حبيب

التكاملية في العرض المسرحي الرقمي
في كل مرة يبدو لزاما علي – ووفقا لمناسبة او بدونها – اعادة تعريف المسرح الرقمي الذي عرفته اول مرة عام 2005 حين طرحت مشروعي عن نظرية هذا النوع المسرحي وقلت حينها ( المسرح الرقمي قادم ) .. ولقد طرأ على تعريفي الاول عدة تغييرات وتعديلات وإضافات طيلة هذه ال ( 20 ) عاما بحكم متابعتي واطلاعي على ما احصل عليه حول هذا المسرح وتطوير وترسيخ نظريتي تلك ..
وعليه اثبت تعريف المسرح الرقمي ، وهو ( المسرح الذي يستثمر التقنيات الرقمية الجديدة في فضاء العرض بهدف تثوير جماليات العرض البصرية والسمعية والتي تتفاعل هذه الجماليات مع الممثل وفي ال ( هنا ) و ( الان ) أمام المتلقين مباشرة ) .
سقت هذه المقدمة لكي امهد مداخلتي النقدية هذه والتي لم تزل منفعلة ذاتيا مع العرض المسرحي الذي انتهيت من مشاهدته قبل ساعة تقريبا وهو عرض ( Not 1 # ) من رومانيا لفرقة مسرح توني بولاندر ، فكرة واخراج ( كاترينا موتشي سيسموندي) والأداء المنفرد للممثلة ( اليسا مونو ) وهو من عروض مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته 32 المقامة حاليا 2025 وتم تقديم العرض على مسرح الغد .
يستند المتن الحكائي للعرض على سيرة مكثفة لفتاة منكسرة تعيش عزلتها بسبب تعرضها في الماضي إلى الاغتصاب الأمر الذي خلخل انسانيتها مبكرا لتضع نفسها في عزلة واغتراب تامين عن الجميع .
لماذا ( التكاملية) في العرض المسرحي الرقمي كما جاء في عنوان مداخلتي النقدية هذه ؟ .. فأقول :
اكتشفت اليوم ومن خلال هذا العرض ، ان عملية استثمار التقنيات الرقمية الحاسوبية الجديدة ، ليست مجرد استثمار عملي تطبيقي يستثمر فيها المخرج هذه التقنيات في فضائه الاخراجي حسب كما نجده في غالبية العروض المسرحية العربية التي تحاول توظيف هذه الرقمية ، بل ان هذا الاستثمار او التوظيف التقني في العرض ينبغي ان يكون مصحوبا ب ( الابتكار) و ( التجريب) لكي نصل إلى هذه ( التكاملية) الخلاقة والمدهشة حقا .. فما فعله الاخراج هنا منذ لحظة بدء العرض إلى نهايته في زمن ( 45 ) دقيقة ، خلق عالم تقني رقمي ساحر وغير متوقع بما اضفاه لنا بيئة رقمية متكاملة ( ارضية المسرح وانعكاسها صوريا على شاشة خلفية) مع استخدامه لملحقات صوتية من اللاقطات الصوتية المتحولة بحسب الموقف الدرامي وانسجته الدلالية المبتكرة هي الأخرى ، وهي تخوض- ونحن كمتلقين معها – وسط غمار الفضاء التجريبي بتحولات صورية وسمعية هيمنت على التلقي وضبطت إيقاع العرض برمته .
المهم والمثير في الأمر ، وبرغم هذا الاستثمار الرقمي طيلة زمن العرض ، ظل الممثل هو المتسيد البطل الأوحد على طول خط البناء الدرامي ، ولم يضيع او يتلاشى وسط هذه الزخرفية الرقمية المقصودة إخراجيا والمتداخلة حقا مع ميزانسين الحركة الادائية والتقنية.. فكانت بطلة العرض بصوتها وجسدها وحسها الداخلي، وكانها تذوب وسط هذا الاستثمار الرقمي ، متلاقحة ومنغمسة معه لدرجة انها لا تسطيع التعبير عن مشاعرها الا وسط هذا الفضاء الذي الهمها حضورا ادائيا لا متوقعا هو الآخر .. حيث انسيابية جسدها وتقمصها الغائر جوف الألم ودموعها وانتفاضتها حتى مع كادر العرض التقني وهي تجبرهم على ايقاف العرض وتخرج من القاعة وتختفي ثم تعود مكملة سيرة احزانها بتكثيف درامي حاد وعنيف.
هذا العرض الرقمي كان درسا بليغا في استثمار هذه التقنيات الرقمية الجديدة نتعلم منها الكثير لأنها أعطت جوا جماليا فكريا للممثلة بان تصل هي الأخرى إلى اداء مسرحي مبهر ومدهش هو الآخر .