الاخراج المسرحي في الدراما الشعائرية الدينية / د.سنان العزاوي

الاخراج المسرحي في الدراما الشعائرية الدينية
عرف الإنسان البدائي الدراما في ابسط صورها عندما كان مقلداً للحيوانات , وكانت هذه اللعبة المفضلة له وهي بمثابة محاكاة للطبيعة والتعرف عليها وما يدور حولها ولأنه لم يستطع أن يعبر عن أفكاره بوضوح فقد كان يلجأ الى الحركة والمحاكاة , وسرعان ما تعلم ان يعبر عن رغباته بالرقص والتمثيل , فقد كان الانسان البدائي يرقص بدافع الخوف مرة والحاجة التي تدفعه الى الرقص مرة أخرى , فالرقص هو احد الوسائل التي كان الإنسان البدائي يعبر بها عن انفعالاته بطريقة غريزية , فالرقص طقساً يلبي حاجاته مقابل تقلبات الطبيعة , ومن تلك الوسائل نشأة الطقوس والشعائر التي كان الإنسان يقيمها لقوى الطبيعة وشيئاً فشيأ احتاجت تلك الطقوس من ينظمها , ويكون مسؤولاً عليها , إذ اعتبر الكاهن أو العالم وربما كان هو رئيس القبيلة أن يكون المنظم لتلك الطقوس والشعائر. ( ) وفي الوقت نفسه كان الشعر والغناء قد اخذا بالنمو حتى تولد عبر اتحادهما بالحركة الطقسية الأولى للشكل الدرامي .
ولذلك مهدت البيئة الإغريقية الاستعداد لخلق الدراما كفن أدبي متفرد الصفات , لان” الدراما في البيئة الإغريقية لم توجد مصادفةً ولم تنبت اعتباطاً , بل أوجدتها عوامل اجتماعية وسياسية وجغرافية , وساعدت على ازدهارها ظروف مواتية تظافرت كلها كي تخلق مناخاً صالحاً ينبت فيه هذا الفن الأدبي الأصيل حتى يبلغ قمته عن طريق المسرح “( ) فالطبيعة والمناخ اشتركت , في جعل الإنسان الإغريقي يسعى للبحث عن الوسائل التي يقرب بها الى الآلهة من خلال إقامة الطقوس والشعائر والاحتفالات الدينية , التي يرى فيها الدافع للتقرب من تلك الآلهة فقد اشتملت تلك الطقوس على الشعر والرقص والتراتيل والغناء , فقد تخللت هذه الاحتفالات رقصات ( ديثرامبية ) تقام في ساحة القرية ، وهذه الرقصات كانت معروفة لدى الإغريق تقام في احتفالات عيد الكروم والاحتفالات الأخرى وكانت تتخللها ذبح القرابين تقرباً للآلهة ، فقد كان قادة الرقصات الديثرامبية يقومون بإلقاء القصص التي تتكلم عن أبطال بلادهم الذين قدموا أرواحهم فداءاً للبلاد , وكانت هذه الرقصات جماعية يقوم بها المشتركين داخل المعبد أو عند المذبح ويكون الرقص على شكل دائري .( ) مصحوباً بحركات وإيماءات تتغنى ابتهاجاً في تكريم الآلهة ( ديونيزيوس ) آلهة الخصب والنماء في اعياد الكروم , فقد اعتبرت هذه الطقوس والاحتفالات الدينية دراما وفيما بعد ولد المسرح منها عند الإغريق , وأصبح الفن المسرحي عند الاغريق ذات طابع ديني .() ويرى الباحث ان اساس الدراما الاغريقية تعود إلى تلك الطقوس والاحتفالات الدينية التي كانت تقدم آنذاك .
اما في مسرح العصور الوسطى فقد بدأت الدراما من الشعيرة الدينية اذ استلهم رجال الكنيسة مادتهم الدرامية من الكتاب المقدس حينما سمح للتمثيل داخل الكنيسة , وفي مرحلة متقدمة قاموا رجال الدين بمساعدة الرهبان بتقديم طقوس وشعائر فهي عبارة مسرحيات تمجد فيها السيد المسيح (عليه السلام) في أعياد الفصح , وأعياد القيامة , والتي تتخللها بعضاً من التراتيل , فقد اعتبرت هذه المسرحيات مرحلة جديدة من مراحل المسرح الكنسي.( ) ومما لاشك ان الكنيسة كمكان مقدس أسهم في إضفاء الخشوع لدى المتعبد .
لقد أصبحت مظاهر النزعة البدائية في مسرح القرن العشرين تمتد لتشمل الدراما الطقوسية , أو الأخذ عن التراث الشرقي القديم والمهجور , فشملت تقديم حالات حلمية محاولةً لاستثارة العقل الباطن لدي المتفرج فكانت لتجارب المخرجين العالميين امثال ( آرتو , كروتوفسكي , بيتر بروك ) صدى في اعادة المسرح إلى حيث الطقوس البدائية .
فان (آرتو) يبحث في مسرحه عن اللغة الطقسية من خلال إعادة اكتشاف العلامات الجسدية الكونية أو ما يسميها (آرتو) بالعلامات الهيروغليفية أي العلامة التي تقوم على الصورة عندما يكون إعادة صياغة التعبير اللفظي في الصورة , ويبحث (آرتو) عن العلاقة بين الجسد والروح والتي تتمثل عنده في الوجود البدائي والوعي السابق عن المنطق , إذ ان فقدان مؤسسات المجتمع التقليدية والدينية لقوتها الإيهامية أثارت حفيظت (آرتو) فأثرت في أعماله وراح يبحث عن أنماط روحية جديدة , جعلته يهتم بالعناصر الدينية الشرقية , والاهتمام بالسحر والاعتقاد الشديد بالخرافات .( ) لذلك فهو يرفض منطق العقل لان العقل على حد تعبيره داخل منظومة متحجرة وسادية , مقابل ذلك يطرح التلقائية اللاعقلانية والهذيان ويعتبرهما بديلين لتحرير خفايا الجسد , ويشترط ارتو في مسرحه العودة الى الوجود البدائي , أي إن تكون العودة إلى الوعي السابق على المنطق , فقد كان تفسيره للأسطورة من خلال لغة الجسد التي وظفها في كل استخداماته للدراما الطقسية , فكان واضحاً من خلال أعماله التي وظف الأجواء البدائية فيها واعتبرها طقساً دينياً , من خلال اللغة الميتة والتعازيم السحرية والرقص التي تكون فيه لغة الجسد الحاملة للإشارات والإيماءات وتعبيرات الوجه هي اللغة الناطقة , لاسيما استخدامه الآلات الموسيقية البدائية والتنويعات الصوتية .( )
ان وسائل التعبير في مسرحه تختلف اختلافاً كلياً عن باقي المخرجين امثال كريج وآبيا , فهو له اسلونه الإخراجي الخاص به , لذلك نجده يهجر المسرح التقليدي المعروف بمسرح العلبة . لقد كان (آرتو) يحلم بدار كبيرة يوظفها للعرض المسرحي , أي انه يريد اقتراب الممثل من المتفرج أكثر حتى يتم التعاطف الروحي بعيدا عن الكلام , فهو لايكتفي بالكلمة في مخاطبة الجماهير , ويعلل ذلك ” إن هذا يؤدي الى إحلال شعر جديد محل شعر اللغة الشعر النابع من الإطار المجرد من الكلمة لايعطي اهتماماً للغة التي تتكون من الإشارة في الفراغ , ومن طبقات الصوت , التي تعبر عن الموضوع , وبالإجمال من كل ماهو مسرحي بطبيعته , إنني أبادر إلى القول بصراحة ان أي مسرح يخضع الإخراج فيه إلى الكلمة هو مسرح أحمق … وعلى ذلك فان البحث عن الكيان الميتافيزيقي للغة المنطوقة , يجعل اللغة تعبر عما لا تستطيع التعبير عنه عادة , ويمنحها القدرة على تحقيق المعاني العضوية الملموسة “( ) لذلك لم يبحث (آرتو) على ان ينقل الى المشاهد مجموعة من الحقائق بقدر ما حرص على ان ينقل له انطباعاً عاماً عن حالة العقل , لأنه كان يبحث عن وسيلة يفهما الجمهور من خلال ما يقدم له من مادة تثير لدية قدراته الفكرية , وهذا على حد قوله لايتحقق بواسطة الرموز والإشارات والدلائل المثقلة التي تحملها اللغة من على خشبة المسرح , بل , ان تساهم في استحضار نوع من التفكير العاطفي .( ) والذي استخدمه في مسرح القسوة , فالقسوة ماهي الاّ عامل مساعد يستخدمه (آرتو) لزيادة فاعلية ردود افعال المتفرج معتمداً بذلك على المبالغة في التركيز على العنف الخالص حيث يقول ” ان الدينامية الداخلية للمنظر المسرحي هي تلك التي تؤثر في المتفرج وتهزه “( ) ويشير ارتو الى ان الإخراج المسرحي ” ينبغي له ان يركز فقط على العناصر الدرامية ذات الصفة المسرحية الخالصة , وهو يعني بها تلك العناصر التي تكون فيها خشبة المسرح هي الأداة الوحيدة لتوضيحها وجلاء مفهومها , ويدخل في هذا كل من الموسيقى , والرقص , والفن التشكيلي , والتمثيل الصامت , والتمثيل الغنائي , والإضاءة والمناضر”( )
اما المخرج (كروتوفسكي) فهو احد المخرجين الذين يشكلون امتداً لمسرح (آرتو) السحري , الذي دعى فيه العودة إلى جذور المسرح الطقسي ، بعيدا عن الرمزية الدينية ، والإيحاء الديني ، لخلق حالة الإثارة ، والدهشة ، والإعجاب والإيحاء ، واستفزاز الطاقات العضوية ، والكلمات ، والإشارات السحرية وحركات الأكروباتيك ، وبالاعتماد على حالة من التوتر والإرهاق الجسدي التي تدفع الجسم الإنساني إلى ما وراء حدود طبيعته العضوية ، وتحقق مجاوزته لذاته . فهو يجبر المتفرج على المشاركة الايجابية في العرض المسرحي فالعرض المسرحي لديه يقوم على استغلال كافة الطاقات الفيزيقية والصوتية المكثفة والمستوحاة من التعبيرات البدائية للإنسان الأول .( ) فالإنسان هو ما يعنيه كروتوفسكي في عمله فهو يركز ” على الإنسان الفرد في إطار مسرح علاجي ذي طابع اجتماعي , حيث يبدأ بالتمييز بين الأساطير الموروثة والمستنبتة من الثقافة , وبين واقع الإنسان المعاصر , مستنداً على فكرة مؤداها إن الأساطير والصورة الفنية ظهرتا نتيجة للسعي الى التوحيد بين البشر , من اجل دحض فكرة النظرية حول الطبقات “( ) فالمسرح لدى (كروتوفسكي) ما هو إلاّ تجمعاً اجتماعياً من اجل استثارة الفكر , لذلك ” فان المسرح في تاريخه الإنساني لم يتوقف بعد ان يكون جزءاً من الحياة الاسطورية الدينية , بل يغدوا سلسلة من الحلقات المتواصلة لذات الاسطورة … إن (كروتوفسكي) فانه يسـعى في عمله المسرحي الى بناء الفعل الاسطوري / الديني داخل المتفرج ليحرره بواسطة تجسيد الاسطورة داخل المناسبات الدينية , وتقليص حالة القداسة المثالية , وتجاوزها , مما يجعل المتفرج يستنتج حقيقته الذاتية داخل حقيقة الاسطورة , وعن طريق عاملي الفزع والخوف يدخل مرحلة التطهير”()
يعتبر (كروتوفسكي) المتفرج هو العنصر الأساسي في كافة عروضه المسرحية من خلال مشاركة في الطقس التمثيلي المعروض ، فهو يبحث عن إيجاد نوع من الألفة الشديدة , وخلق الحب , فهذا احد الاسباب التي دعت المتفرجين من الحضور إلى أعماله بشكل ملفت للنظر , فقد صاغ (كروتوفسكي) عروضه المسرحية بحيث يتحول الفعل الدرامي إلى بيئة عاطفية للجمهور, وتبدأ لحضات الكشف الذاتي , وهو ما يشترط الألفة الشديدة ، وتجاوز الحواجز النفسية والجسدية ، والمعطيات الحسية المنتظمة بين الجمهور والمتفرج .( )
سعى (كروتوفسكي) عبر التدريب الشاق الى تطوير مهارات وإمكانيات الممثلين , فهو يريد من ممثليه ان يكونوا كالآلة الموسيقية , وفي نفس الوقت ان يحترفوا العمل عليها , فهو يعتبر الآلة الموسيقية جسد الممثل , وصوته هو الصوت الدافيء المختبيء في هذا الجسد , فالممثل في مسرح (كروتوفسكي) الفقير الأهم الأكبر , فهو يركز كل بحوثه وتطبيقاته داخل إنسانية ذلك الممثل والتي يعد مملكة الممثل ليس لها حدود .() وفي ما تقدم يرى الباحث إن (كروتوفسكي) سعى إلى إعادة المسرح إلى أصوله التي ثبتت إنها وسيلة للقاء دائم لاينقطع النظير مع جمهور باحث للمعرفة والتواصل .
أما المخرج (بيتر بروك) فالمسرح في نظره مقدس , إذ يحاول فيه ” جعل غير المرئي مرئياً , وفي الوقت نفسه يبحث الأسس التي تجعل من إدراكه ممكنناً , ولذا فان هذا النوع من المسرح يتجاوز حدود الكلمات واللغة المنطوقة , ويميل الى العوالم السحرية الغامضة , ذات الأصول البدائية , ويعتمد على الجسد الذي بمقدوره إطلاق الطاقات الروحية , وتحرير كل من الممثل والمتفرج من اسر التقنع والزيف “() واللامرئيات عند (بروك) متكونة من خبرات دينية مقدسة تقع خارج العالم المادي , وخارج ما ندركه بالعقل مثل السحر والأسطورة والعالم الروحي , فالطقوس والشعائر المقدسة والمعتقدات الدينية , كانت إحدى ممارسات المجتمع القديم التي كان يعبر عنها في العديد من المناسبات . () إلاّ ان بروك يرى ان الفن قادر على التعبير عن هذه الأبعاد الميتافيزيقية فهو يقول ” كل منا يدرك ان معظم حياتنا لا نستوعبها الاستيعاب الكامل من خلال حواسنا , وان أقوى ما يفسر الفنون المختلفة من أساليب هو الأنماط الشكلية التي تتخذها , فنحن نتذوق الموسيقى من خلال الألحان والإيقاع والتناغم وائتلاف اجزائها مع بعضها البعض , فندرك ان هناك شيئاً سحرياً فاتنا اسمه الموسيقى “()
ويقوم الإخراج المسرحي لدى (بروك) على ثلاثة عناصر متكاملة فهي ( النص , والممثل , والجمهور ) ويعتر النص هو العنصر الأول الدائم الأساسي فالمخرج واجبه من خلال النص إن يكشف كل أهداف المؤلف , وان يجسدها بكل الوسائل المتاحة لديه , فالمسرح في تطو دائم , لاسيما اسلون ورؤى المخرج ايضاً عليها أن تتطور , فالمخرج عليه أن يخلق لغة إخراجية خاصة به يكون الممثل فيها السمة البارزة .()
وإما الممثل فانه عنصراً مهم لدى (بروك) من عناصر العرض المسرحي الأخرى , كونه الوسيلة الحقيقية الوحيدة الحية التي تميز الفن المسرحي , عن غيره من الفنون , ويقول (بروك) ” ان تركيزي على الممثل ليس مسألة اسلوب , لكنه تجربة , فالممثل أهم شيء على خشبة المسرح , واعتقد ان كل شيء الموسيقى , والملابس , والديكور , والإضاءة يتم الحكم عليها في مكان آخر , لكن كل هذه الأشياء ثانوية بالنسبة للعنصر البشري”() ذلك ان (بروك) يسعى في إيجاد خبرة مسرحية لدى الممثلين تعتمد على المشاركة الجماعية , فهو لايعتمد على ممثلين من ثقافة واحدة أو من جنس واحد , بل من مختلف الجنسيات والثقافات والقوميات ” وهذا يعني عملياً قلب أوليات التواصل التقليدية بحيث تزداد أهمية العناصر الثانوية الخاصة بالإيماءة والنبرة , والطبقة الصوتية وديناميات الصوت , أو الحركة , وهي عناصر لها جميعاً قيمة تعبيرية “( )
وهذا الإدراك في رؤية (بروك) الإخراجية حدى به الى التوجه نحو خلق مسرح طقسي يعرض الجانب الروحي , ويقدم للمجتمع احساساً بالانتماء الجماعي , فالمسرح لدى (بروك) ليس وسيلة عرض فحسب لكنه أداة , لها القدرة على تحريك الإحساس نحو روح المشاركة داخل المجتمع فالمسرح الطقسي جزءاً من استجابة بروك لما كان يراه من المشاكل والمتاعب التي تواجه العلم العصري .()
ينطلق (بروك) من مفهوم المسرح جزء من الثقافة لأي مجتمع كان , مؤكداً في خطابه هذا على وعي وإدراك المتفرج , حيث يضع المتفرج في صميم التجربة المسرحية , ويطلق علية الأضواء الكاشفة ليس الأضواء المادية بل , أضواء الكشف الروحي , لان المتفرج في هذا المسرح في اختبار دائم مادامه متواجداً في حيز العمل الفني , فان (بروك) يبحث عن التغيير النفسي والاجتماعي للمتفرج , ومن هنا تأتي مهمة المخرج في جعل الممثل والمتفرج في بودقة واحدة عن طريق مجموعة من التقنيات الأدائية التي يعمل عليها الممثل , والتي سوف تؤثر في المتفرج حتى يتمكن من بتصوير الحياة ويعدّها شيئاً يمكن إدراكه حسياً .( )
لقد سعى (بروك) بشكل واضح إلى احداث نوع من الوحدة بالطبيعة من خلال عرضه ( المهابهارتا ) التي شكلت عودة واضحة إلى مسرح الأسطورة , فان (بروك) يريد ان يعبر عن الصراع الكوني الذي سوف يدمر كل شيء , فهو يحمل في ذاته مخاوف , كيف لا وهو ابن الحرب العالمية الثانية , فالصراع في ( المهابهارتا) ليس على المستوى المجتمع بل على المستوى الإنسانية برمتها التي سوف تشمل الوجود الكوني .( )
وفي ما تقدم يرى الباحث إن الفن المسرحي ما هو الا طقس من الطقوس القديمة , وشعيرة يقوم بإعادة خلقها المخرج , من خلال نص مكتوب او فكرة بحيث تجسـد على المسرح من قبل مجموعة من الممثلين , فالمسرح كما نتفق ولد من الطقوس والشعائر الدينية على مر العصور, وفي أي حضارة , وحتى في العصور الوسطى عندما حرمت الكنيسة المسرح نراه يولد من جديد وعلى أيدي رجال الدين مرة أخرى , فالفن المسرحي وليد الطقوس والشعائر .

قراءة في مسرحية الاجل حارس
تأليف : د.حميد صابر
اخراج: د.سنان العزاوي
فكرة العرض :
حمل العرض السيرة الافتراضية للأمام علي (عليه السلام) سيد البلغاء ومسيرته الدينية في مواجهة الفتن والدسائس والمكر ونبذ القيم اللا دينية واللا انسانية التي يتحلى بها بعض الناس فالعرض اشبه بمنبر تعليمي يحرض على اتباع منهج الامام علي وال بيته عليهم السلام والدعوة الى التأخي وانتصار الخير على الشر , مثلما خلد انتصار الدين على الكفر والتسامح على البغض والتواضع على التكبر عبر ما طرح من قصائد واناشيد بلغة عامة اقرب للواقع كمعادل موضوعي للعرض .
التحليل :
“كفى بالأجل حارساً” عبارة معروفة للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، تعكس فكرة أن الموت هو الحارس الدائم للإنسان. إن قضاء الله وقدره هو الذي يحدد موعد الأجل، ولا يمكن لأي شخص أو قوة أن تمنع الموت عندما يحين وقته. فالموت يراقب كل إنسان ويأخذه عند انتهاء عمره، ولا يستطيع أحد الهروب منه أو النجاة منه مهما كانت أفعاله.
ينطلق العرض تأليفا واخراجا من فلسفة (نيتشه) حول صراع الخير والشر , و ما يحمل من رموز دلالية لتأسيس المعنى في ذهن المتلقي وافهامه بان الواقعة ليست مصطنعة بل ازلية ما بين الخير والشر , لقد جسد المخرج خطاب الخير في شخصية الامام علي (عليه السلام) وخطاب الباطل بالذات الفاشية المتسلطة القاطعة للرحمات , اذ حمل العرض روحا طقسية , قام المخرج بالجمع بين الطقوس التقليدية، مثل المشاعل واللطم، التي قدمها الرادود (جبار الحريشاوي ) ، وبين التقنيات الحديثة مثل عرض البيانات والإضاءة والأزياء. استخدم العرض أسلوباً معاصراً لتقديم شخصية ابن ملجم، حيث ظهر كمجرم غير متزن، يتفاخر أحياناً بما فعله ويبرر أفعاله في أحيان أخرى. هذه الرسالة توحي بأن تأثير ابن ملجم لا يزال موجوداً حتى اليوم. في المقابل، تم تسليط الضوء على شخصية أمير المؤمنين علي عليه السلام من خلال شخصيات العرض، الباحث والأستاذ، اللذين يسعيان بصدق وتفانٍ للبحث عن الحق.
ان العرض برمته طقسيا افتراضيا تفاعليا يحمل نوع من التحريضية بالثورة على الفتن , والعودة نهج البلاغة العليا بما يحمل من مناظر التعازي والتشابيه , كان الاخراج يشكل أفق فكري وجمالي جديد يتعلق بمفهوم تاريخية الإرهاب، حيث يعيد الربط الذكي بين شخصية عبد الرحمن بن ملجم وأقوال (الخوارج) وأقوال داعش المعاصرة، خوارج العصر الجديد، إنتاج تراث الخوارج في تقويضهم للتفسير القرآني وبقائهم ضمن منظومة قبلية وإبادة من لم يكن في المركب العقائدي (الفكري) معهم ورفضهم قبول الآخر المختلف والاعتراف به في ظل محاكمة ابن ملجم كأنه داعشي معتقل في أحد سجون العصر الحديث، لتتجسد هذه المحاكمة بوسيطة فيديو سينمائية بين قبح وفظاظة أطروحات ابن ملجم ومظهره الذي ظهر متضخماً ومشوهاً بالنسبة للشخصيات الأخرى في فضاء العرض. الوسيط السينمائي الذي تحول إلى لوحة بيضاء ضخمة تناثرت عليها حروف اللغة العربية، والتي انصهرت فيما بعد في أقوال الإمام الشهيد: (الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) و(لا تستوحش على طريق الحق من قلة من اتبعه) و(الرهبة مرتبطة بالخيبة والحياء مرتبط بالحرمان)، في رؤية ما بعد حداثية للصورة الإعلامية عمقت المحتوى المعرفي والفكري للحدث التاريخي. ولم يتجه المخرج إلى تقديم رثاء حزين وخاشع للإمام الشهيد، بل عمل على إبراز القيم الإنسانية النبيلة في حياته الدنيوية، وإشعاع حكمته ومنجزاته الأخلاقية الغنية، بحيث تتركز أهمية العرض البصري وقيمته الجمالية في ضوء إبداع البناء في الفضاء المفتوح بأنماط حركية متغيرة ومتنوعة تشكلت مساراتها من خلال تعدد النقاط المحورية العمودية، وكأننا أمام منبر عملاق في مسجد تحيط به ألسنة من نار وأعلام عربية باللون الأسود والأخضر والأحمر تمثل مختلف العصور الإسلامية.
لقد اعطى المخرج دلالات تأويلية تمثلت بالتكاتف العربي الغربي على المكون الشيعي في العراق كونه يتبع منهج الحق من اجل نبذ القيم اللادينية التي تدعوا اليها الدول الاوربية وبعض الدول الخليفة من العربية اذ هي تعتبر محاولة اغتيال سياسي للدين برمته , لقد حمل العرض خطابا ورسالة الى كل ملك او حاكم مغزاه السلام والتواضع والتسامح , لقد خاطب العرض جميع افكار المتلقين واولهم النخبوي الذي تلقى السيرة بقراءة مغايرة فتحت افاقه المعرفية الدينية ودعته للتفاعل عبر الانزياح الثقافي عبر اللغة العامة والاهازيج والنحيب من اجل تحقيق المعنى العام للعرض , كونها لغة قريبة على وجدان المتلقي .
المصادر والمراجع
1 ـ سمير سرحان , دراسات في الأدب المسرحي ( القاهرة : دار غريب للطباعة , بت )
2 ـ محمد حمدي إبراهيم , نظرية الدراما الإغريقية (القاهرة : الشركة المصرية العامة للنشر , 1994)
3 ـ جميل نصيف التكريتي : قراءات وتأملات في المسرح الإغريقي (بغداد: دار الحرية للطباعة ، 1986)
4 ـ م : هوايتنج , المدخل إلى الفنون المسرحية ، ت : كامل يوسف وآخرون ، ( القاهرة : وزارة التربية والتعليم ، دار المعارف ، 1970 ) .
5 ـ كريستوفر أينز، المسرح الطليعي ، ت : سامح فكري( مركز اللغات والترجمة ـ أكاديمية الفنون ، بلا ، ت )
6 ـ حسين التكمه جي , نظريات الإخراج دراسة في الملامح الأساسية لنظرية الإخراج ( بغداد دار المصدر 2011 )
7 ـ سعد اردش , المخرج في المسرح المعاصر ( الكويت : المجلس الوطني للثقافة والفنون الأدب ، 1979 )
8 ـ مدحت الكاشف , المسرح والانسان تقنيات العرض المسرحي المعاصر ( القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب , 2008 )
9 ـ جورج ولورث , مسرح الاحتجاج والتناقض , ت : عبد المنعم اسماعيل ( القاهرة : مكتبة مدبولي , 1979 )
10 ـ هناء عبد الفتاح , آفاق التجريب المسرحي عند جروتوفسكي , مجلة عالم الفكر , المجلد (25) , العدد(4) السنة (1997)
11 ـ احمد سخسوخ , اتجاهات في المسرح الأوربي المعاصر ( القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب , 2005 )
12 ـ كولين كونل , علامات الاداء المسرحي مقدمة في مسرح القرن العشرين , ت : امين حسين الرباط (القاهرة : مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي , 1998)
13 ـ جميل حمداوي , بيتر بروك والإخراج المسرحي التلفيقي , مجلة ديوان العرب الالكترونية , 15 / 3 / 2009 .
14 ـ سؤدد كنعان , تأثير الملامح على مسرح بروك , مجلة الحياة المسرحية ( دمشق : العدد /55 , 2004 )