اخبار المسرح

‘النورس’ الروسي يحلق بلهجة تونسية في سماء عربية

معز المرابط يقدم مسرحية الكاتب الروسي أنطون تشيخوف بمعالجة إخراجية من منظور تونسي معاصر.

‘النورس’ الروسي يحلق بلهجة تونسية في سماء عربية

احتضنت قاعة الفن الرابع بالعاصمة نهاية الأسبوع المنقضي عرضا مسرحيا من إنتاج المدرسة التطبيقية للحرف المسرحية التابعة للمسرح الوطني التونسي. وقد قدّم هذا العرض في إطار تخرّج الدفعة العاشرة من برنامج “مدرسة الممثل”. وكان العمل عبارة عن إعادة مساءلة مسرحية “النورس” للكاتب الروسي أنطون تشيخوف في معالجة إخراجية من منظور تونسي معاصر بإمضاء الدكتور معز المرابط.

استغرق عرض العمل ساعتين كاملتين وعُرض باللهجة التونسية ما أضفى عليه خصوصية لغوية ودلالية قرّبت النص من جمهور محلي يبحث في المسرح عن صورته وعن قضاياه وربما عن خلاص ما من عنف التمزق الداخلي.

وقد تميزت النسخة التونسية بجرأة الأسلوب وانفتاحه على أسئلة الواقع التونسي والعربي. وشارك في التمثيل كل من إسكندر الهنتاتي وسامي فاخت وهاجر الزايدي ونبراس خلف الله وزينب هنانة ومريم بوقفة وفاطمة قوطالي وعزيز الناوي وفاطمة بالنور وغادة الجبالي ومحمد العبيدي.

مسرحية “النورس” التي كتبها أنطون تشيخوف في نهاية القرن التاسع عشر، تنتمي إلى ما يعرف بالمسرح الواقعي النفسي. وتدور أحداثها في فضاء ريفي روسي حيث تعيش مجموعة من الشخصيات التي يجمعها البيت العائلي والحلم بالفن أو الحب أو المجد، لكنها سرعان ما تُدفع إلى الحافة لتتآكل داخليا بسبب التناقضات والصراعات غير المحسومة.

ويتمثل الموضوع المحوري للمسرحية في رصد التحولات الداخلية لشخصيات هشة وممزقة وتائهة بين الطموح الشخصي والخذلان العاطفي والاجتماعي، فالكاتب “تريبليف” يتوق إلى ابتكار شكل جديد للمسرح ويصارع ظل أمه “أركادينا” الممثلة الشهيرة التي ترفض الاعتراف به وبفنه. أما “نينا” الفتاة الحالمة، فهي تنجذب بدورها إلى الفن ولكنها تنتهي مهزومة في علاقتها العاطفية وفي مشروعها الفني. وتتقاطع هذه الخطوط الدرامية في نسيج سردي يفيض بالصمت والتأمل وانكسارات الوجدان.

لكن ما فعله معز المرابط في هذا العرض هو تفكيك هذا البناء الكلاسيكي وإعادة تركيبه في شكل جديد أكثر عصبية وأشدّ تعبيرا عن قلق الإنسان المعاصر في العالم العربي. ولذلك لم يكن عرض “النورس” وفيا للهدوء التشيخوفي ولا لبطء إيقاعه التأملي وإنما جاء صاخبا ومفتوحا على تلوينات متعددة من الأداء والمشهدية.

انطلقت المسرحية بمشهد افتتاحي سريالي يذكّر بكوابيس ما بعد الحداثة، ظلام وتعثّر في اللغة وأجساد تتقاطع في فضاء مجرّد وكأن المتفرج يتابع انهيارا يحدث على مستوى الأحداث وفي بنية النص ذاته.

وعمل المخرج على كسر الإطار الكلاسيكي للمسرحية عبر تغيير لغة الجسد والإيقاع والتقطيع الزمني للمشاهد التي بدت أشبه بأسلوب عبثي فيما لامس بعضها الآخر حدود المسرح داخل المسرح وتوزعت لحظات الصمت بين انفعالات جسدية قوية وصرخات فجئية وضجيج بصري مقصود.

وجاء استخدام اللهجة التونسية في كامل العرض اختيارا فنيا في الرؤية الإخراجية. وقد شكّلت هذه اللهجة جسرا بين المتلقي والنص ووسيلة لخلخلة المسافة بين الشخصيات ومحيطها الثقافي، فلم يعد “النورس” ينتمي إلى روسيا القيصرية بل أصبح مرآة لتجارب محلية وإقليمية معاصرة عن أحلام الشباب المجهضة وعن فن يبحث عن صوت وعن نساء تائهات بين الاستقلال والهشاشة وعن جيلين لا يفهمان بعضهما البعض، وعن ثقافة لا تزال تعاني من تناقضات بنيوية كبرى.

وتطرح مسرحية “النورس” لأنطون تشيخوف، كما قدّمت على خشبة الفن الرابع بتونس، مجموعة من القضايا التي تتقاطع فيها الأبعاد النفسية والاجتماعية والثقافية، إذ تتبدّى شخصيات مثقلة بالخذلان تعيش حالة من الإحباط والفراغ وتبحث عن معنى لوجودها وسط واقع لا يوفر لها سوى الخيبة.

وتتوزع شخصيات المسرحية بين جيلين متباينين في الرؤية والموقع، جيل يسعى إلى التجديد الفني والتعبير الحر وجيل متمسك بنجاحات الماضي وبموقعه داخل منظومة ثقافية تقليدية. وهذا الصراع بين الأجيال يتجسد في التوترات العاطفية وفي صدامات الرؤية وفي هشاشة العلاقات العائلية.

وتتقاطع هذه المسارات أيضا مع بحث مضن عن الهوية، حيث لا تجد الشخصيات مكانا ثابتا لها لا في الفن ولا في الحب ولا في العائلة. ويتحول كل حلم في النهاية إلى عبء، وكل طموح يفضي إلى عزلة. وحتى حين تحدث المأساة فإن وقعها لا يترك أثرا كبيرا في المحيط وكأن العالم يستمر رغم كل شيء بلا تغيير حقيقي.

ولم تبتعد المسرحية كثيرا عن الواقع التونسي والعربي فكانت مرآة للصراع والوجع وامتدادا لتجارب معيشة في المنطقة، بما في ذلك الإحباط الوجودي والشعور باللاجدوى وقد جسدتها شخصيات تائهة تبحث عن معنى في عالم متشظّ وتعيش على حافة الانهيار، وهي صورة تكررت في المجتمعات العربية ما بعد الثورات، وفق وكالة تونس أفريقيا للأنباء.

وعبرت مسرحية “النورس” عن هشاشة الإنسان وعن طموح لا يجد منفذا وعن علاقة معقدة بين الفن والحياة، فالقضايا التي تطرحها لا تزال حية وتبدو في بعض جوانبها أكثر وضوحا حين تعرض في سياق اجتماعي معاصر كالواقع التونسي أو العربي حيث تتكرر تجارب الانكسار والتوق إلى اعتراف لم يتحقق بعد.

المصدر : meo

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى