مقالاتمهرجانات

“أم البلدان” مسرحية تسائل حاضر تونس بمرآة التاريخ والدولة والهوية

مهرجان الحمامات الدولي يستحضر رموزا تراثية تونسية أصيلة في دورته التاسعة والخمسين.

“أم البلدان” مسرحية تسائل حاضر تونس بمرآة التاريخ والدولة والهوية

أم البلدان” مسرحية تمزج التاريخ بالحاضر، لتوجه نقدا لاذعا لما تعيشه تونس اليوم انطلاقا من الوقوف على أحد أهم الصراعات التي عرفتها تونس تاريخيا، خلال فترة الدولة الحفصية.

عرضت المسرحية في إطار الدورة التاسعة والخمسين من مهرجان الحمامات الدولي، الذي انطلق يوم الحادي عشر من يوليو الجاري ويتواصل إلى غاية الثالث عشر من أغسطس المقبل، وهي شراكة فنية بين الكاتب الكبير عزالدين المدني والمخرج حافظ خليفة في ثالث تعاون بينهما بعد “رسائل الحرية” و”عزيزة عثمانة”.

تتناول المسرحية فترة حكم مؤسس الدولة الحفصية أبوزكرياء الحفصي في القرن الثالث عشر، مقدّمة تونس كأرض الحضارات وراعية للعدالة والابتكار. وأدى الأدوار نخبة من الممثلين الكبار هم محمد توفيق الخلفاوي وعزيزة بولبيار وجلال الدين السعدي ونورالدين العياري وعبدالرحمن محمود وجميلة كامارا وعبداللطيف بوعلاق، إلى جانب مجموعة من الممثلين الشبان هم شهاب شبيل وكمال زهيو وآدم الجبالي وعبدالقادر الدريدي ونزهة حسني وشيماء الصماري وعبير صميدي ومجدي محجوبي وفاطمة الزهراء المرواني وسيف الدين الوجيهي ومحمد يوسف بن عزيز.

مسرحية تتناول فترة حكم مؤسس الدولة الحفصية أبوزكرياء الحفصي مقدّمة تونس كأرض الحضارات وراعية للعدالة والابتكار
مسرحية تتناول فترة حكم مؤسس الدولة الحفصية أبوزكرياء الحفصي مقدّمة تونس كأرض الحضارات وراعية للعدالة والابتكار

وجاء هذا العمل ثريا ومتنوعا من حيث الخصائص الفنية المميزة له، إذ اعتمد على لحظة تأسيس الدولة الحفصية بوصفها خلفية رمزية تسائل الحاضر وتضعه في مرآة الماضي. فقد استُحضرت شخصية أبي زكرياء يحيى الحفصي كرمز لبناء الدولة والعدل والحكم الرشيد. وفي المقابل يضع الكاتب المتلقي أمام شخصية ابنه المستنصر بالله الذي مثّل لحظة الانهيار والانحراف عن المبادئ، وهو تقابل درامي يطرح تساؤلات جوهرية حول السلطة وتحوّلاتها ومآلاتها.

وجاء النص مشدود الإيقاع ومحكم البنية تتخلله لغة عربية فصحى دقيقة وجميلة دون أن تغيب عنه لمسات من اللهجة التونسية لإضفاء القرب والحميمية وكسر الجديّة العالية أحيانا وإراحة المتفرج من عناء تتابع الأحداث. كما تميز الحوار بثرائه وكثافته الدلالية وتعدّد مستوياته التأويلية ما جعله يحتمل القراءة الرمزية والتاريخية والسياسية في آن واحد دون أن يفقد طابعه الفني.

وقد عُرض النص في شكل مكثف بعد أن اضطر فريق العمل إلى اختزاله بسبب طوله الزمني الذي يتجاوز في صيغته الكاملة أربع ساعات، إلا أن هذا التكثيف لم يأت على حساب المضمون بل احتفظ العرض بجوهره التعبيري ورسائله الفكرية بل وببصمته التونسية الواضحة سواء على مستوى الكوريغرافيا أو الموسيقى أو التشكيل البصري.

وقد برزت في العرض بشكل لافت الرؤية الإخراجية المعاصرة التي قدمها حافظ خليفة الذي اعتمد السينوغرافيا الرقمية المتحرّكة أو ما يطلق عليه تقنية “المابينغ” مما أضفى على العرض بعدا بصريا جماليا وخلق تماهيا تاما بين الصورة والمحتوى. كما تم توظيف الرقصات الرمزية مثل رقصة التنورة والسطمبالي في مشاهد جماعية وفردية أضافت بعدا فنتازيا روحيا، فيما جاءت الموسيقى التصويرية المصاحبة الحية للفنان إبراهيم البهلول عنصرا أساسيا في بناء اللحظة الدرامية وتعميق التفاعل الوجداني لدى الجمهور.

ومن العناصر اللافتة أيضا في العرض ما شهدته السينوغرافيا من استحضار لرموز تراثية تونسية أصيلة كأبواب المدينة العتيقة وجامع القصبة وباب البنات وهي خلفيات شكلت بعدا رمزيا يذكّر بالجذور والهوية في حين صُمّمت الملابس بعناية لتعكس فخامة العصر الحفصي وتساهم في ترسيخ الطابع الرمزي للشخصيات وجعلها تنطق بما هو أكثر من دورها الظاهري.

واندمجت كل هذه المكونات في نسق تعبيري واحد جعل من “أم البلدان” عرضا متكاملا أداء وتعبيرا وصوتا وصورة وشكلا ومضمونا، لينخرط في مساءلة كبرى للواقع الراهن التونسي من خلال ربط جدلي بين الماضي والحاضر والسعي إلى تفكيك مفهوم الدولة بوصفها مشروعا لا يُبنى مرة واحدة وإنما يحتاج إلى إعادة تأسيس دائمة.

وانطلاقا من الخصائص الفنية المميزة لهذا العرض، حاول كاتب النص والمخرج من خلال شخصية أبي زكرياء الحفصي إثارة العديد من القضايا الجوهرية وفي مقدمتها مفهوم السلطة وعلاقة الدولة بالمجتمع وتحوّلات الحكم بين التأسيس والانهيار. وقد مثّلت الدولة الحفصية، مثلما تظهر في العرض، لحظة مفصلية في تاريخ تونس حيث طرحت لأول مرة بشكل واضح ومباشر أسئلة العدل والإنصاف والحكم الرشيد.

وبرزت بقوّة جدلية الماضي والحاضر التي شكّلت أحد محاور العرض الأساسية، إذ لم يكن التاريخ في المسرحية هدفا في حد ذاته وإنما بدا وسيلة لكشف ما يشبهه في الحاضر. وفي ذلك إشارة تكاد تكون مباشرة إلى الوضع السياسي الذي عرفته تونس منذ 2011 وما شهدته من صراعات سياسية وأعمال إرهابية واستقواء بدول أجنبية وركود اقتصادي واجتماعي كاد يؤدي إلى انهيار الدولة.

ومن هذه الزاوية، تتخذ الهوية بعدا مركزيا في العرض باعتبارها قضية وجودية تستحق التأمل. فقد أكدت المسرحية رمزية تونس بوصفها “أمّ البلدان” أي أنها فضاء للخصوبة التاريخية والصمود الحضاري والتجذر في الذاكرة.

عرض لا يخلو من الواقعية
عرض لا يخلو من الواقعية

ولعل أبرز ما طُرح في العرض هو التحذير من الانحراف عن قيم الحكم الرشيد. وفي هذا المستوى تدعو المسرحية إلى مراجعة جماعية لأسباب الانهيارات المتكررة التي عرفها التاريخ السياسي في تونس وفي المنطقة العربية برمّتها.

أما القضايا السياسية المعاصرة، فقد حضرت بقوة من خلال طرح إشكالية غياب الثقافة الديمقراطية في المجتمعات التي لم تعرف هذا النمط من الحكم إلا في فترات قصيرة ومتوترة. وقد بدا واضحا من خلال الخطاب المسرحي أن الديمقراطية ليست مجرد آلية انتخاب وحدها وإنما تتعدى ذلك بكثير لتصبح ثقافة تقتضي الوعي والنضج السياسي والانخراط الفعلي في الشأن العام.

وقد عبّر المخرج حافظ خليفة، خلال الندوة الصحفية التي انعقدت بعد العرض، عن فخره بهذه التجربة التي وصفها بأنها استمرار لمسيرته المسرحية. وأضاف أن هذا العمل هو ثالث تعاون له مع الأستاذ الكبير عزالدين المدني الذي وصفه بأنه رجل ملهم وعاشق لتونس ودارس لتاريخها ومنه يستعير الماضي ليتحدث عن الحاضر وكأنه يستشرف المستقبل.

وعن “أم البلدان”، أفاد المخرج بأن ما وقع في زمن أبي زكرياء الحفصي من تأسيس للدولة يعيدنا اليوم إلى ما نعيشه من نقاش حول عودة الدولة وهيبتها في ظل التمزق السياسي وكيف يمكن لتونس أن تنهض مجددا مثلما فعلت سابقا. وبيّن أن النص الذي كتبه المدني يتضمن أكثر من 120 شخصية، وأنه تم الاشتغال على اختزاله ضمن رؤية إخراجية تسعى إلى تحقيق التوازن بين البعد الفكري والبعد الفرجوي، مع التأكيد على الخصوصية التونسية في الموسيقى والحركة دون أن يقع العرض في الابتذال أو الاستسهال.

من جانبه، عبّر الكاتب عزالدين المدني عن اعتزازه بالتجربة قائلا “كتبت أكثر من أربعين مسرحية وعملت مع عدة مخرجين كبار لكن هذه التجربة لها طابع خاص لأنها تتعلّق بتونس”. وأكد أن المسرحية ليست عرضا تاريخيا بالمعنى السردي وإنما هي استحضار للتاريخ كمرآة للحاضر. كما أشار إلى أن العمل يتحدث عن الحاضر من خلال الماضي ويتناول الواقع بأسلوب فني وهو لا يخلو من الخيال وإنما يتعمّد توظيف الأسطورة والأسلوب الرمزي لتوسيع دائرة التأويل. وأكد المدني أن شخصية أبي زكرياء الحفصي في المسرحية تجسّد نموذج الحاكم العادل الذي أكرم المرأة ودافع عن الهوية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى