المسرح العالمي

“الآنسة جولي”مسرحية تجسد أفكار المدرسة الطبيعية في الفكر والفن : محمد الحمامصي

ستريندبرغ يستكشف مواضيع معقدة كالصراع الطبقي وديناميكيات القوة المتغيرة.

تمكن رواد المدرسة الطبيعية في الفكر والفن من دراسة أعماق الإنسان المخفية وأشكال وجوده المختلفة، مستندين على أسس مادية، ومستنطقين حكايات وقصصا ومشاهد تكشف لنا ما يواجهه البشر من اضطراب وصراعات داخلية طاحنة، وهذا ما يتجسد في مسرحية “الآنسة جولي” التي تترجم للمرة الأولى من لغتها الأصلية إلى العربية.

تعد مسرحية “الآنسةُ جولي” أشهر مسرحيات المسرحي والروائي والشاعر السويدي يوهان أُوغست ستريندبرغ (1849 – 1912) على الإطلاق، ترجمت إلى العربية أكثر من مرة، عن الإنجليزية أو غيرها من اللغات، لكنها تأتي هنا بترجمة عن اللغة السويدية مباشرة، في الطبعة الأولى لنصها الأصلي، لا عن لغة ثالثة، متضمنة مقدمة ستريندبرغ الشهيرة للمسرحية، والتي اعتُبرت بمثابة بيانه الأدبي، بالإضافة إلى مقدمة تحليلية للمترجم إبراهيم عبدالملك.

تشكل “الآنسة جولي”، الصادرة عن منشورات تكوين، أهم عمل مسرحي جسد أفكار المدرسة الطبيعية في الفكر والفن. قدمت، وما زالت، مرات لا تحصى بأغلب اللغات الحية، وبرؤى واقتراحات تأويلية مختلفة، لا في المسرح وحسب، بل كأفلام سينمائية وعروض أوبرا وباليه ودراما تلفزيونية في مختلف أرجاء العالم.

الصراع الطبقي

يرى عبدالملك أن ستريندبرغ أراد بهذه المسرحية وعن قصدية جلية تثبيت انتمائها إلى الحركة الطبيعية أو الطبيعانية، وهي حركة من الحركات الدرامية التي تبلورت في المسرح الأوروبي عن المذهب الطبيعي في الفن والأدب، والـذي ظهر أواخر القرن الـ19 تأثرا بالنظرة الداروينية إلى الطبيعة، حيث نادى بهذه الحركة عدد من المسرحيين والأدبـاء كان ستريندبرغ من أبرزهم بعد الفرنسي إيميل زولا (1840 ـ 1902) مؤسس المذهب الطبيعي.

وتعد “الآنسة جولي” أهم مثال تطبيقي مسرحي حدد ملامح هذه الحركة/ التيار لا من خلال النص المسرحي وحده، بل ومن خلال المقدمة التي وضعها ستريندبرغ للمسرحية؛ تلك المقدمة التي يراها كثيرون بمثابة “بيانه الأدبي” الشخصي، أسوة ببيان إيميل زولا في كتابه “الرواية التجريبية”.

تدور أحداث المسرحية في مساء صيفي “ليلة عيد القدِّيس سان جوفاني”، ووسط الاحتفالات الصاخبة في عزبة أحد النبلاء “كونت”، تنزل الآنسة جولي ابنة الكونت الأرستقراطية إلى مستوى الخدم، مدفوعة بملل حديث عهد بفقدان خطيبها. سرعان ما تجد نفسها منجذبة إلى خادم والدها جان، الذي يمتلك ثقافة وذكاء يتجاوزان مكانته الاجتماعية. في خضم الأجواء الاحتفالية، تتجاوز جولي الحدود الطبقية المحرمة وتقع في حب جان وتتوسل إليه أن يعلن حبه لها وتدعوه إلى مناداتها باسمها، ويصل الأمر بها إلى الدخول في علاقة جسدية معه.

بعد أن تمـارس جـولي وجان الجنس، تتحول خيالاتهما المثالية من صيـف إيطـالي إلى كشف قبيـح لنـوايا جـان. تتحول جـولي من “عشيقة” (بمعنى سيدة المنزل) إلى “عشيقة” (بمعنى محظية)، وتجد نفسها تغرق في “قذارة فظيعة”. تتساءل عن سلوكها. في مـواجهـة اتهـام جان بأنها تصرفت كوحش وعاهرة، تستسلم جولي، وتتوسل إلى خادمها بشكل مازوخي أن يعـاقبها ويساعــدها في نفـس الـوقت. إنها تكـره وتعشـق حبيبها في آن واحـد.

يعكس خضوع جولي لجان تصورات ستريندبرغ للتطور. يقترح أن جولي يجب أن تسقط أمام جان، لأن النساء أدنى تطوريا من الرجال. هذا التصور الأسطوري للتطور مركزي لمصير كل شخصية. كما يلاحظ ستريندبرغ في مقدمته للمسرحية.

يستمر الصراع الطبقي، وهو صراع مستنير أيضا بفهم ستريندبرغ لتاريخ التطور. تتخيل المسرحية الخدم يقلدون ويتطلعون إلى أن يصبحوا أسيادا. وتعكس أحلام جان بأن يصبح كونتا يوما. وعلى الرغم من أن جان يسيء إلى جولي، معلنا أنهما يأكلان الآن من طبق واحد، إلا أنه يظل واعيا بمكانته الأدنى. ومع ذلك، فقد وضعت جولي نفسها تحت رحمته بمضاجعته. عندما تهين جولي جان، يمكنه أن يرد بأنه مهما كان هو، فهي أسوأ، لأنها نامت مع الرجل الذي تهينه.

هكذا تستكشف “الآنسة جولي” ببراعة مواضيع معقدة مثل الصراع الطبقي الحاد، وديناميكيات القوة المتغيرة، وتأثير التوقعات الاجتماعية على سلوك الأفراد. كما تكشف عن هشاشة الحدود الطبقية تحت تأثير الرغبة، والعواقب المدمرة لتجاوز هذه الحدود.

◄ المسرحية تعتبر أشهر مسرحيات يوهان أُوغست ستريندبرغ على الإطلاق، ترجمت إلى العربية أكثر من مرة

 شخصيات المسرحية، وخاصة جولي وجان، مرسومة بعمق نفسي، مما يجعل دوافعهم وصراعاتهم الداخلية قابلة للتصديق ومؤثرة. إنها ليست مجرد قصة عن علاقة حب محرمة، بل هي تحليل قاس للمجتمع، وللصراع الدائم بين الرغبة والقيود الاجتماعية، والذي غالبا ما ينتهي بمأساة.

يقول ستريندبرغ في مقدمته “لطالما بدا لي المسرح، كما الفن عموما، وكأنه كتاب مقدس مصور لأولئك الذين عدموا القدرة على قراءة المخطوط أو المطبوع، والمؤلف المسرحي واعظا جوالا من العامة يعرض أفكار العصر في قالب شعبي، شعبي إلى حد أن الطبقة الوسطى، التي تشكل غالبية جمهورية جمهور المسرح، تستطيع دون كثير اهتمام إدراك مغزاه. لذلك كان المسرح دائما شعبية للشباب، وأنصاف المثقفين والنساء، الذين لم تزل لديهم القدرة على خداع أنفسهم وعلى تقبل خداع الغير لهم، وأعني هنا الحصول على الوهم، وتلقي الاقترحات من المؤلف.”

دراما مؤثرة

وتابع “لذلك، وفي عصرنا هذا، إذ البدائي الناقص من الفكر، الذي يجري عبر المخيلة، يظهر للعيان وقد تطور إلى انعكاس، وتفحص، واختبار، فقد بدا لي كأن المسرح، كما الدين، من المحتم عليه أن يكون في طريقه للاندثار باعتباره شكلا محتضرا نفتقد الشروط الضروية للاستمتاع به. مما يؤيد هذا الرأي أزمة المسرح الحالية، التي تحكم أوروبا بأكملها، وكذلك وبالقوة نفسها هذا الطرف المتمثل بكون البلدان الثقافية التي خرج منها أعظم المفكرين على مر العصور، وتحديدا إنجلترا وألمانيا، قد ماتت فيها الدراما، كما هي حال الفنون الجميلة الأخرى خصوصا.”

ويوضح أن في هذه الدراما الماثلة لم يبحث عن صنع شيء جديد، إذ إن ذلك غير ممكن، بل عن تحديث الشكل وحسب تبعا للمطالب التي حسنت الحداثيين من أبناء العصر وسيفرضونها على هذا الفن. وبهذه الروحية فقد اختار أو ترك نفسه لدافع يمكن القول بأنه يقع خارج الصراعات الحزبية في تلك الأيام، كون مشكلة صعود أو انهيار الاشتراكية، ومشكلة الأعلى والأدنى، الأفضل أو الأردأ، الرجل أو المرأة كانت ولم تزل، وسوف تظل محط اهتمام راسخ.

وأضاف “حين أخذت هذا الدافع من واقع الحياة، مما سمعت حكايته لسنوات خلت، إذ تركت الحادثة أثرا بالغا فيّ، وجدته يصلح لتأليف مأساة، إذ لم يزل مما يترك انطباعا حزينا، أن يرى المرء فردا سعيد الحظ يسقط، أكثر بكثير من موت أحد الأقارب. ولكن زمنا ما قد يأتي، نكون فيه قد تطورنا واستنرنا، إلى حد نشاهد فيه بلا اكتراث تلك التمثيلية الوحشية، الهازئة، عديمة القلب التي تجود بها الحياة، ونكون نضونا عن أنفسنا آلات التفكير الغادرة، الدونية، التي تدعي المشاعر، والتي ستصبح ضارة ولا لزوم لها، بعد أن تكون أعضاء الحصافة قد أتمت نموها.”

◄ تكره حبيبها وتعشقه في آن واحد

الحب كالمكحلة

يشير ستريندبرغ إلى أن “كون البطلة تثير التعاطف هو ضعفنا في أن لا نقوى على مقاومة الشعور بالخوف من أن يصيبنا القدر نفسه. أما المشاهد الأشد حساسية فعليه مع ذلك أن لا يقنع بهذا التعاطف ورجل المستقبل صاحب الإيمان عليه ربما أن يشترط بضعة اقترحات إيجابية لتقويم السر الحاصل. ولكن أول ما يتوجب الوعي به هو أن السر المطلق لا وجود له، إذ إن تعاسة أحدهم بالسقوط هي سعادة آخر، سيتاح له الصعود، وهذا التبادل في الارتقاء والسقوط يشكل واحدة من أعظم نعم الحياة، حيث السعادة تكمن في المقارنة وحسب. أما الأنظمة التي تسعى لمعالجة ذلك الظرف المؤسف الذي ينهش الباز فيه الحمامة، وكذلك ينهش القمل فيه الباز، فأريد مساءلتها: لم معالجته؟ ليست الحياة بهذا الحمق ـ الحسابي حيث الكبار هم من يأكل الصغار وحسب، بل كم يحدث أن تقتل نحلة أسدا أو تفقده صوابه على الأقل.”

ويضيف “لأن تترك هذه المأساة التي ألفتها لدى كثرة إنما هو خطأ هذه الكثرة، حين نصير أشداء كالثوار الفرنسيين الأوائل، فسيكون مما يترك بغير شرط أثرا سعيدا وطيبا أن نشاهد سياج الحدائق الملكية الحديدي من على أشجار عتيقة داكنة، وقفت داخله لزمن طال أكثر مما ينبغي في وجوه آخرين لهم الحق نفسه في غرس زمنهم؛ انطباع طيب كذلك الذي تتركه رؤية مريض لا شفاء له ينعم بالموت! لقد انتقدت مأساتي ‘الأب’ لكنها مأساوية للغاية، وكأنهم يطالبون بمأساة مبهجة. ينادون ببهجة الحياة، ومديرو المسارح يكتبون طلبات لمهازل، وكأن بهجة الحياة تكمن في السخف وفي رسم البشر وكأنهم موسومون جميعا بالرقاص أو البله. أجد بهجة الحياة في المعارك الشرسة الشديدة التي تزخر بها الحياة، ومتعتي هي أن أنال شيئا من المعرفة، أن أتعلم شيئا.”

ويلفت ستريندبرغ إلى أنه علل المصير المحزن للآنسة جولي بظروف شتى، هي: الغرائز الأساس للأم، وتربية الأب الخاطئة للفتاة، وطبيعتها هي وإشارات خطيبها إلى العقل الفاسد الضعيف. ثم استطرادا وأكثر دنوا: هو الاحتفال بليلة منتصف الصيف، وغياب الأب، واعتلالها الشهري، واشتغالها بالحيوانات، وتأثير الرقص المهيج، وعتمة الليل، وتأثير الزهور الأفروديتي الشديد، وأخيرا الصدفة التي تسوق الاثنين معا إلى مكان فيه خلوة، زائدا جاذبية الرجل المثيرة. بذلك فإنه لم يتناول المسألة من جانب واحد، ولا قصر الدافع على الجانب السايكولوجي، ولا حصر السبب بالوراثة عن الأم، ولا ألقى اللوم على الاعتلال الشهري دون سواه.

ويضيف “لم أستبعد كل ما عدا ‘الفجور’ ولم أكتف بالوعظ الأخلاقي وحده… الخادم جان هو مؤسس نوع ممن يمكن أن يلاحظ التفاضل فيه. كان ابن مستخدم وها قد تعلم كي يصير من السادة. كان نجيبا في تعليمه، أحسن تطوير حواسه (الشم والتذوق والبصر) وكذلك حاسة تمييز الجمال. واقف على قدميه بالفعل، وقوي بما يكفي لئلا تجرحه المواظبة على خدمة الآخرين. وقد تم فيه اغترابه عن محيطه الذي يحتقر إلى حد التبرء منه، يخشاه ويهرب منه، فناسه يعرفون أسراره ويسجلون نواياه، بحسد ينظرون إلى ارتقائه، وبحبور يرقبون سقوطه. لكن حاشية العبودية فتعبر عن نفسها في تقديسه للكونت (حذاء الفروسية)، وفي تطيره الديني، ولكنه يقدس الكونت باعتباره صاحب المكان العلي الذي يسعى إليه، ويظل هذا التقديس راسخا، حتى بعد أن يخضع ابنة الكونت ويرى كم كانت تلك القشرة الجميلة عدمية.”

ويوضح “لا أعتقد أن علاقة حب بالمعنى السامي يمكن أن تنشأ بين نفسين مختلفتي التكوين، ولذا جعلت الآنسة جولي تملي حبها كما لو كان واقيا أو مبرئا، وجعلت جان يظن أن بإمكان حب كحبه أن ينشأ تحت ظروف اجتماعية أخرى له. أرى أن الحب كالمكحلة التي يجب أن تضرب بجذورها في العتمة قبل أن يكون بمستطاعها إطلاق زهرة قوية. هنا تشرئب وتزهر وتحمل بذرها فورا، ولهذا يموت النبت سريعا.”

◄ علاقة معقدة بين سيدة وخادم
◄ علاقة معقدة بين سيدة وخادم

المصدر : العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى