لمناسبة مشاركة عرض “سيرك” في مهرجان القاهرة التجريبي.
"انهم يقتلون البشر والشجر والطيور، اليس كذلك؟"

لمناسبة مشاركة عرض “سيرك” في مهرجان القاهرة التجريبي.
عرض “سيرك” العراق.
نص وسينوغرافيا وإخراج: جواد الأسدي �الممثلون: شذى سالم وأحمد الشرجي وعلاء قحطان. وجوقة من طلاب معهد الفنون في بغداد.
إنه “سيركنا” جميعا، وهي وحشتنا جميعا. فهي وحشة المبدع إن كان روائيا كـ”لبيد” او فنانة كـ “كميلة”. هو النكوص والإحباط الذي ينخر روح الروائي “لبيد” فتدفعه الوحشةُ ليلجأ كل صباح الى حديقةٍ مهجورةٍ،يأنس فيها لما سَلِم من الحروب من الطير والشجر. وهي أيضا معاناة “كميلة” المرأة الفنانة التي تحوّل سيركها/مسرحها الى مجمّعٍٍ للقمامة بعد ان هدمته معاول الحروب وتوّحش اصحاب السلطةِ وانتهازية من يواليهم، في بلدٍ لم يعد للخير فيهِ مكانا. إذ يتآمر “ريمون” زوج كميلة وهو من يديرالسيرك، على تخريبه وهدمه، نزولا عند رغبةِ “سيده الضابط” الذي يزعجه نجم السيرك، الكلب الطيب “دودن” فيأمر “ريمون” بمعاقبته، فيقتله ريمون شرَّ قتلة، فيتهاوى السيرك، الصرح الفني الذي كان “المسرح/الدار” الذي تحتمي فيه كميلة من شرور الحرب والقهر والبؤس الذي يُطبق بأنيابه على مدينتها وأهلها. و”ريمون” تجسيدٌ للانتهازية والخنوع وهو بالتالي تجسيد لتلك الفئة من البشر التي تعتاشُ كالبراغيث على دماء الابرياء، والابرياء كما سنرى، ليسوا بالضرورة بشرا، بل لا يسلم منهم حتى الحيوان متجسدا في الكلب “دودن”. وفي عنوان هذه القراءة استلهام من عنوان فيلم هو “إنهم يقتلون الجياد، أليس كذلك؟” وهو فيلمٌ تتمحور أحداثه حول مسابقة في الرقص، تدفع بالمشتركين الى الإذلال ومن ثم الهاوية طمعا في الفوز بالجائزة المغرية. إنه “النظام” بصورتيه السياسية والاجتماعية، الذي يحّولُ البشر الى أسرى ومنفيون داخل أوطانهم. المدن تحتاج الى هواءٍ نقيٍ وحرية وسلام، إلا أن شرور الأنظمة وما تخلقه من حروب وأزمات هي التي تخنقها، فتتحول الى سجون كبيرة، تدفع الكثيرون مما تبقى من الأنقياء الى الموت المعنوي والروحي، أو الى محاولة عبور الحدود بحثا عن الأمان.
يعّجُ نص وعرض سيرك للمؤلف/المخرج جواد الاسدي بروائح الدم والدخان والعفن. انها “مدينتنا” وهو “مسرحنا جميعا، وعلينا ان نتحمل مسووليةمآلات خرابه، لذا تصرخ “كميلة” الفنانةُ محذرة ومنددة “سيجتاحنا الطوفان!”. لا مجال ابدا لأيةِ علاقة انسانية سوية في زمن الخراب، إذ يخونُ “ريمون” ما اؤتمنَ عليه، فيضيع السيرك، الذي تعتبره “كميلة” ملجأها وقارب نجاتها الوحيد. وماذا بعد كل هذا الخراب؟ نسمع في المشهد الاول مكالمة هاتفية من ريمون لزوجته كميلة، فيتوسل اليها ان تعود من الحدود، لأنها قد قررت الرحيل. وللمنافي اشكال عديدة، وقد يكون أقساهاان يُنفى الانسان في وطنه. و”لبيد” الروائي الحالم، منفيٌّ، لم يبق له في الوطن غير مصطبة وحيدة في متنزه مهجور. الوحشة وباء، وقد يتسلل الى أسمى العلاقات بين البشر واكثرها حميمية، فيصيبها اليباس، كما يقول “لبيد” الذي فقد ذكورته كما فقد القدرة على الكتابة، وفرَّ الحب والدفء في بيت الزوجية، وتحولت “الدار/الوطن” الى رماد. في هذا الخراب، لا يعيش إلا من باع روحه للشيطان المتمثل بكل ما تجسده السلطة ومن يواليها، وهذه قضية معروفة وشائكة جدا، وقد عانت منها كل المجتمعات التي دمرتها الأنظمة الشمولية وحروبها البشعة.
تأسست شخصيات العرض الثلاث على البوح ومناجاة النفس والاخر والمدينة، فالشخصيات كلها اسيرة هذه العذابات والتي اشتد اوارها في بعض مدننا العربية. حتى “ريمون” قاتل “دودن” وبمعنى آخر قاتل للفن متمثلا بتدمير السيرك، هو ضحية ضعفه وانتهازيته. اليأس هو الذي يجمع بين الفنانة “كميلة” والروائي “لبيد”. ورغم الحنين الى ماضٍ يسكن روحيهما، إلا أن عذابات الحاضر وانتفاء الأمل بالحب والجمال، تُفرِِقُ بينهما. وهي نهايات منطقية وواقعية، وقد نجحِ المعلم الأسدي في رسمها كمصائر لشخوصه، فلا ينجو منهم أحدا، حيث لا نجاة بعد كل هذه الحرائق التي تلتهم حياة البشر والشجر والحيوان.
للأسدي أسلوب معروف في خياراته للصياغات الفنية لعروضه. إذ يشكّل التكثيف والتقشف عصبا رئيسا فيها. انطلاقا من النص (نص الخشبة/العرض) الى السينوغرافيا، كنص درماتورجي مهم، تشَكَلَ من مفردات (الجدران السوداء العالية والمائلة، والأشجار القليلة الميتة، وطاولة طويلة وعارية، وكرسيين) في متنزه لم يعد صالحا أبدا للنزهة والمتعة. كل هذه المفردات، بالإضافةِ للإضاءة الشبحية، التي أسهمت الشموع التي تحملها جوقة المؤدين، والتي خلقت طقسا أقرب الى الشعائرية، أو بتعبير أدق، الجنائزية. كل هذه المفردات التي أثثت فضاء العرض، عَضّدت الإحساس بالموت والخراب، والتي سادت فيها الظلال، وحولت في أكثر من مشهد، الشخصيات والأشجار الى أشباح، في فضاءٍ يضجُّ بالتعفن، ويضخُّ دلالات ذات تأثير حسي وفكري، إذ هي نتيجة تلاحم وتواشج (دراماتورجيات) العرض المختلفة. إذ تتضح دراماتورجيا الممثل في هذا العرض، من خلال الأسلوب الذي أعتمده كل من الممثلين/والممثلة لتجسيد شخصيته/شخصيتها. أعتمد علاء قحطان في تجسيده لـ”ريمون” على الغروتيسك في كل تفاصيل الأداء، فهو يتحرك بحيوية عالية وبحركات واسعة، ويتحدث بسرعة ويضحك بصوتٍ عالٍ. ليكون أشبه بمهرج سيرك، لكنه مُهرجٌ مزيف وأفاق. ينبح “ريمون” في أكثر من مشهد بطريقة ساخرة ومُستفِزة، فيتحول على عكس “دودن/الكلب الطيب” الى كلب مسعور، وشرسٌ. “ريمون” هو تجسيد لكلاب السلطة، التي تكون أداة للقمع والتدمير. تُعبِرُ لغة جسد “لبيد/أحمد الشرجي” عن النكوص واليأس. حركته ثقيلة وبطيئة ومحدودة، لكن مع التماعات في الجسد والصوت، تستفزها، أوهام الروائي الذي يعيش على ما بقي من مشروع ادبي، هشمته العتمة والكآبة والوحدة. يعتمد بناء المشهد الذي يجمع بين “لبيد” و “كميلة” بعد فراق طويل، على واحدة من تلك التوهجات الآنية والمؤقتة، والتي يخلقها الحب، أو وهمه، أو ما تبقى منه. فينتهي المشهد، الذي كان سينقذ كل من “لبيد” و”كميلة” من اليأس، في عرضٍ/نصٍ آخر، بإعلان اليأس التام، من خلال حديث “لبيد” عن فقدان ذكورته وقدرته على الحبِ والكتابة. إنه مشهد دائري، ينتهي بما أبتدأ به، رغم محاولة التمسك ببعض الأمل.
تعتلي “كميلة/ شذى سالم” الطاولة الطويلة التي تتوسط المسرح في واحد من مشاهد العرض المهمة، فيخلق الأسدي من خلال هذا الخيار الفني، مسرحا داخل مسرح، إذ تتحول الطاولة الى خشبة أصغر، تُضاء ببقعة ضوء قوية، ويقوي هذه البقعة/الخشبة الثانية، حضور شذى سالم في مونولوج بوحٍ، تستحضر فيه المسرح وبعض شخصياته المعروفة. تؤسس لعبة الأسدي هذه، ومن خلال الأداء الرصين والمؤثر للفنانة شذى سالم، لنصٍ/عرضٍ متداخل مع العرض، يُفجٍرُ أسئلة كبيرة ومهمة، حول مصير الفن وأقدار الفنانين في أزمنة، تُمعِن فيها السلطة على خنق كل فن أصيل وكل مبدع حقيقي. إن مشهد “الطاولة/الخشبة/المسرح” هو صرخة المبدع، والمثقف الذي ينتمي انتماءً عضويا لوطنه.
إن “سيرك” الأسدي هو رمز لوطن تذروه رياح الحروب، وهو نداءٌ حار وقاسٍ لنا جميعا، لأننا كلنا نبحرُ في قاربٍ واحد. ومقاومة الشرور هي غاية غايات الفنون، وهي مسؤولية المبدع اينما كان.�
ضياء حجازي�ناقد ومخرج مسرحي من العراق