السينوغرافيا وسيلة المسرح الجزائري لتقديم خطاب تجريبي

السينوغرافيا وسيلة المسرح الجزائري لتقديم خطاب تجريبي
تعتبر السينوغرافيا من أهم أركان العمل المسرحي، بل هي إطاره الأساسي، من دونها لا يمكن أن نتحدث عن عمل مسرحي. ويبقى إهمال دور السينوغراف والتكامل معه من قبل بعض المخرجين نقطة ضعف كبيرة في أعمالهم.
وكان فن السينوغرافيا يهتم في بداية ظهوره، بتوفير الأجواء والخلفية الملائمة لما يجري من أحداث على الخشبة، إلا أنه اكتسب من الأهمية، ما جعله يؤثر في المكان المسرحي برمته، حتى صار همه البناية المسرحية بكاملها، وما يجري فيها من نشاط، خلال عصر النهضة الأوربي، الذي شهد ميلاد العلبة الإيطالية.

واحتلت السينوغرافيا في المسرح المعاصر مكانة هامة نتيجة تطور التنظير في الدراما المسرحية والفضاء المسرحي إضافة إلى تطور الإمكانيات التي منحتها الثورة التكنولوجية فصارت السينوغرافيا في واجهة الفعل المسرحي بل ومحوره في أحيان كثيرة، وهو ما انتبهت إليه مبكرا المسارح المغاربية وعلى رأسها المسرح الجزائري الذي استفاد من الحراك الفكري ما بعد منتصف القرن العشرين، وانتهج العاملون فيه التجريب خيارا جماليا.
في هذا الصدد يقدم الدكتور عقاب بلخير في كتابه “سينوغرافيا المسرح الجزائري الراهن” بحثا هاما حول هذا الفن في واحد من أبرز المسارح العربية، ويرصد أساليب وأنساق العرض التي ميزت المسرح الجزائري عبر دراسة عدد من الأعمال المسرحية ليبين مدى تأثر المخرجين المسرحيين الجزائريين بالحركة المسرحية العالمية، والاستفادة من تطوراتها.
وقد ساهمت الجماليات السينوغرافية المعاصرة في تحسين ظروف التلقي، حيث أصبح بإمكان الجمهور أن يشاهد العرض في ظروف أفضل تطرح أمامه مساحات أوسع للتفاعل والتأويل، وذلك في ظل إمكانيات جديدة تمثلت في التجهيزات الحديثة على كل الأصعدة، من صورة، ومؤثرات صوتية، وكل ما يناسب روح العصر، علاوة على قوة الفكرة التي تحرك أغلب العروض وتمنحها أبعادها التأملية وتعطي الخطاب الفني قوة النفاذ والتأثير وخاصة التفاعل الذي يعتبر سمة الفنون المعاصرة الأولى.
ويقول الدكتور عقاب بلخير في حديث معه إن “الفترة الممتدة من الستينات وتسعينات القرن الماضي، إلى الواقع المسرحي الحالي، تعد فترة تحول مهمة، وطفرة ثقافية متنوعة ومتميزة في المسرح الجزائري، مع أهمية التجارب المسرحية للفترات السابقة، إذ يمكن رصد هذا التميز من حيث تهيؤ التكوين الأكاديمي لدى المخرجين والممثلين، منذ فترة الثمانينات؛ إذ إنهم إما حاصلون على تكوين جامعي أو على تكوين معاهد مختصة في الفنون الدرامية.”
ويضيف “كما تهيأت الظروف للمسرح الجزائري، من خلال نخبة مثقفة تمكنت من الاطلاع على الآداب العالمية والتوجهات الفكرية والمدارس المختلفة في المسرح، فضلا عن محاولة مجاراة الأعمال العربية والعالمية والتمرس على ذلك، عبر تعدد التجارب والتنافس على العروض، ووجود تحفيزات بالمشاركات المتعددة في المسابقات، سواء تعلق الأمر بالمسرح الوطني المحترف أو المسرح الهاوي (مسرح الجمعيات)، علاوة على أنه تجسدت للمسرح الجزائري كذلك فكرة التجريب مع توفر التقنيات الجديدة.”

ويؤكد مؤلف الكتاب على أن هذه الفترة “اتسمت بالخروج عن التصور الأيديولوجي في الكتابة التي مست كل أشكال التعبير، سواء أكان ذلك شعرا أو رواية أو مسرحا، وبقيت الممارسة السابقة تتعايش مع التغيير الكبير الذي حدث في بنية النص المعاصر والراهن، إذ أصبح المسرح الجزائري بناء على هذه المتغيرات، منفتحا على الرؤى العالمية في الإخراج، والمعالجات السينوغرافية، ولم يعد يركن إلى عوامل الثبات في العمل المسرحي، بل أصبح معتمدا على عوامل التجريب المتواصل، مع وجود تجارب مسرحية ناجحة، شكلت لدى أصحابها رؤية متكاملة للعرض، بتقنيات متنوعة، وبفكر يبني العرض عبر مزج النص بالحركات والتعبير بالجسد، أكثر من الاعتماد على بنية الحوار المتناسق.”
واشتغل بلخير في هذا الإصدار على ثماني مسرحيات راصدا مختلف جوانبها الفنية على رأسها الجانب السينوغرافي، منها ثلاثية المخرج المسرحي محمد شرشال، ومسرحية “فالصو”، ومسرحية “بهيجة”، و”موت الذات الثالثة”، ومسرحية “مايا”، ومسرحية “هنا ولهيه”؛ وهي المسرحيات التي درسها مؤلف الكتاب وفق مناهج نقدية حديثة مختلفة، مع وجود فصلين آخرين؛ فصل تاريخي تقييمي، وفصل منهجي علمي حول السينوغرافيا وتقنياتها.
وتتجاوز السينوغرافيا التأطير المكاني والموضوعي إلى خلق رؤى بصرية وخطاب قد يتجاوز خطاب الكلمة ويتساوى مع جسد الممثل والحوارات والنص عموما، مقدما تصوّرات تجريبية تقود حتما إلى توسيع الرؤى وفتح آفاق أكثر عمقا أمام فعل التلقي وأمام الفعل المسرحي في آن واحد.