مقالات

حين تُطلق مسرحية اسم “حياة” على نفسها، فإنها لا تشير : ليلى بورقعة

في العرض ما قبل الأول لمسرحية “حياة” لمعز العاشوري: من مسرح الاحتفال إلى مسرح الانهيار !

حين تُطلق مسرحية اسم “حياة” على نفسها، فإنها لا تشير إلى

اسم امرأة بل إلى الحياة المفتوحة على كل الخيارات والاحتمالات. منذ لحظاته الأولى، لا يكتفي عرض “حياة” للمخرج معز العاشوري برواية حكاية امرأة اسمها “حياة” بل يجعل من تلك البطلة صورة مصغّرة من الحياة. هي الحياة كما نعشقها ونخافها، وكما تغرينا وتغدر بنا، كما تضحكنا وتضحك منا، كما نلاعبها وتلاعبنا على حبل من وهم.

في العرض ما قبل الأول لمسرحية “حياة” إنتاج شركة ماب برود بالتعاون مع رابطة الإنتاج المسرحي العربي المشترك، الذي احتضنته مؤخرا مدينة الثقافة ، كان الجمهور على موعد مع نصّ كتبه الدكتور السعودي سامي جمعان، وأخرج العرض واشتغل على الدراماتورجيا معز العاشوري، بينما جسّدت الدور الممثلة نادرة التومي في أداء فرديّ متقن شخصية “حياة”.

“حياة” تنوبنا في تلقي الصفعة

ليس من المتاح دائما أن نشاهد مسرحية تتجاوز فكرة الفرجة لتصبح اختبارا حيّا للذات، تلك كانت مسرحية “حياة” وتجربة البطلة “حياة”. وقد نجح العرض منذ لحظاته الأولى في إرباك الحدود بين الخشبة والقاعة، بين الواقعي والافتراضي، بين الشخصية والمتفرّج.

يبدو العرض في ظاهره مونودراما كلاسيكية: امرأة تنتظر زوجها في ليلة رمزية ـ عيد زواجهما الأول ـ وفي حضرة جمهور “مدعو” إلى الاحتفال، يتسلل الغياب شيئا فشيئا ويتأخر الزوج السعيد في الحضور أو هو لن يأتي في النهاية. خلف ملامح “حياة” المبتسمة التي تلبس فستان الأبيض والفرح تختفي حياة المتأرجحة بين ماض متصدّع وحاضر هش ومرآة لا تعكس إلا ندوب الروح وجراح القلب.
يحسب للمخرج معز العاشوري كسره للثنائيات التقليدية وتلاعبه بالمفاهيم المتعارف عليها للموندرام. فليست “حياة” مونودراما بتعريفها السائد ، إذ سرعان ما نجد أنفسنا أمام تعددية أصوات: أصوات داخلية وأخرى افتراضية وثالثة يطلقها الجمهور نفسه. فالجمهور لا يُمنح في هذا العرض رفاهة الحياد، بل يُستدرج إلى قلب الصراع. وهنا تبرز مهارة الإخراج التي تخلّت عن الشكل الصندوقي لصالح فضاء مفتوح يبتلع المتفرج ويحوّله إلى شاهد، ففاعل، فمُدان.
تحضر الخيانة الزوجية في عرض “حياة” كقادح درامي للأحداث، لكن دون عرض أسبابها أو تفاصيلها، لكنّها تلوح كجُرح غائر يتسلل إلى جسد المسرحية بهدوء قاتل. فهذه الخيانة ليست حدثا، بل حالة. ليست فعلا خارجيا بل زلزالا داخليا يُفقد الشخصية يقينها بالعالم، وبالآخر وبذاتها.وهنا تبرز القيمة السوسيولوجية للعرض: إذ يعالج الخيانة لا كقضية أخلاقية، بل كأزمة وجودية يعيشها الفرد داخل منظومة اجتماعية تفرض التجميل والكتمان والتظاهر والنفاق.

نادرة التومي بطلة الركح والحياة

وهو يزاوج بين وظيفتي الدراماتورج والمخرج، لا يقدّم معز العاشوري قراءة للنص بقدر ما يغوص في ثناياه ليُفجّره من الداخل. لقد قرأ شخصية “حياة” ككائن معاصر ممزق، أسير بين واقع ثقيل وعالم افتراضي واهم .

ببساطة مذهلة وجسارة مدهشة ، صنعت نادرة التومي من جسدها نصا بديلا للنص، ومن ملامح وجهها انعكاسا لوجع الانكسار. جاء أداء الممثلة نادرة التومي – مع بعض الإفراط أحيانا في تقمص الحالة – مؤثرا ومقنعا فهي لا تؤدي، بل تكشف وتنكشف. لا تمثّل، بل تعيش انهيار الشخصية طبقة طبقة، حتى تتماهى مع التجربة التي تقترحها الدراماتورجيا. إنّ حياة، التي بدأت واثقة ومتماسكة تدخل تدريجيا في لعبة الانهيار ومتاهة الضياع النفسي والجسدي.
في “حياة”، لم تكن نادرة التومي ممثلة على خشبة، بل كانت الكائن نفسه الذي خرج من قلب السؤال، حاملة على كتفيها هشاشة امرأة وارتباك إنسانة وقلق زمن لا يرحم. كانت البطلة طاقة جبارة تجيد الانتقال بين حالة ونقيضها في تجربة حسّية وفكرية تحمل الحياة في ارتباك يديها، وخفقة قلبها العاشق والناقم، ورعشة صوت يتقاذفه موج الأمل والألم.

سينوغرافيا التعرية: السقوط التدريجي للقناع

في “حياة”، لا تتولد السينوغرافيا لتجميل المشهد أو ملء الفراغات، بل لتخلق لغة موازية للنص، وتقوم بإعداد المتلقي للغوص في متاهات البطلة الداخلية. لم يكن الفضاء الركحي، مجرد ديكور، بل لغة أخرى للوجع وللخيانة وللخذلان : شاشات، ظلال، مساحات فارغة… كلها تعكس فراغ العلاقة، وانقطاع التواصل، وتحوّل المنزل الذي كان يفترض أن يكون حضنا واحتواء إلى مسرح للخيبة والانكسار.

دون أن تُفصح، حاكت السينوغرافيا بلغة بصرية مدروسة التوتر النفسي وحجم الخراب في وجدان البطلة “حياة”. كان كلّ شيء يوحي بأن الحياة لم تعد صلبة . وقد أصبح النور أشدّ تعذيبا من الظل. كما أصبح الجسد المُنهك للبطلة علامة على بؤس النهاية لكل من مرّ بخيانة أو عاش كذبة.
لم يضع المخرج معز العاشوري بطلته في وضع استقرار وسط الركح، بل جعلها متحركة غير ثابتة، تارة تموء كقطة جريحة وتارة تنقض كنمرة متوحشة. تتحوّل السينوغرافيا من خلفية صامتة إلى لاعب أساسي في “اللعبة”، تغري المتفرّج بالدخول لا للمشاهدة بل للمساهمة في بناء المعنى وفي الإجابة عن أسئلة “الحياة” حين تسألنا كما صدحت “أم كلثوم” في أغنية “ثورة الشك”: “أكاد أشك في نفسي لأني أكاد أشك فيك وأنت منّي” !

الجمهور… حين يصبح جزءا من اللعبة

في “حياة”، لم يكن المتفرّج جالسا في عتمة الصفوف، بل كان منذ اللحظة الأولى في قلب الضوء. السينوغرافيا لم تترك له مهربا أو خيارا بل أحاطته بسؤال معلّق في الهواء: هل أنت شاهد؟ أم شريك؟ أم متواطئ؟
نجح اختيار الفضاء المفتوح وخيار المسرح التفاعلي في محو الحاجز بين الواقع والركح. وما بدا في الوهلة الأولى تفاعلا مسرحيا، تحوّل تدريجيا إلى اختبار وجداني، حيث وجد كل متفرّج نفسه معنيا بالسؤال الدرامي: ماذا بوسعنا أن نفعل حين يخون الآخر؟ وماذا عنّا حين نخون؟ هل ننتقم من الإهمال؟ أم نثأر لأنفسنا ؟ أم نفتك عدالة حياة لم يهبها لنا القدر؟
جمهور حياة” لم يكن جدارا صامتا ولا جدارا رابعا بل جزء من المعادلة/ من اللعبة. فأسلوب المسرح التفاعلي الذي اعتمده العرض لا يكتفي بكسر الجدار الرابع، بل يُسقط الجدران كلّها. فيصبح الجمهور شاهدا أو متواطئا أو حتى خائنا …وتلك هي شراسة المسرح حين يتحوّل إلى فضاء للمساءلة الوجودية. من خان؟ من سكت؟ من غفر؟ من صدّق؟
كلنا هنا متّهمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى