مقالات

بيت تقديس أصنام السلطة والمجتمع تضيع أحلام الانسان : مفيدة خليل

مهرجان بغداد الدولي للمسرح/ مسرحية “مأتم السيد الوالد” إخراج مهند هادئ

بيت تقديس أصنام السلطة والمجتمع تضيع أحلام الانسان


المثقف ابن بيئته وصوته، يلتقط باسلوب مختلف حكايات اليومي ويحولها الى شيفرات فنية تحفز على طرح السؤال، فنسأل
هل نعرف ذواتنا؟ هل ما نبرزه هو الحقيقة؟ وهل هناك حقيقة واحدة؟ أم لكل وجهة نظر لما بسمى حقيقة أو تاريخ؟ من يكتب تاريخنا هل نحن أم هناك يكتب عوضاً عنا؟؟ واسئلة عديدة يطرحها مهند هادي في ‘مأتم السيد الوالد” التي عرضت في الدورة السادسة لمهرجان بغداد الدولي.

المسرحية نص واخراج مهند هادي واداء مرتضى حبيب وباسم الطيب واسراء رفعت وريهام البياتي وحضور شرفي لطارق هاشم واهدى العمل الى روح فقيدي المسرح اقبال نعيم واياد الطائي.

أداء الممثل والترميز وسيلة لقراءة العمل

نبحث عن الحقيقة خارجنا وهي مدفونة في بئر انفسنا العميقة، نحاول التحرر من الماضي لكنه يكبلنا ويرافقنا كلعنة لا ترياق لها، نريد الحرية والتناص مع الحاضر لكن قصص الماضي تحركنا وتدفعنا نحو المزيد من الأخطاء، فهل نختار الآن والنحن أم نكتفي بالماضي ورموزه؟ هكذا تتساءل الشخصيات على الركح، هم اربعة مختلفون في الشكل وطريقة النطق والحركة والاداء لكنهم صورة الملايين، صورة لاشخاص واحلام مؤجلة بسبب الاب، السلطة، العادات، التقاليد، جميعها قيود تكبل الانسان حتى يتقوقع ويعيش الماضي لا الحاضر.
“مأتم السيد الوالد” عنوان المسرحية، اصطلاحا يتكون العنوان من مترادفتين، الأولى المأتم أي مكان العزاء والثانية السيد الوالد في إشارة مباشرة الى الاب، العنوان تقريري بسيط لكنه مليء بالرموز، فالمأتم قائم فعلا والشخصيات تلبس الأسود وتطلق أصوات الحزن، ولكن هل ترثي الوالد فعلا أم ترثي نفسها؟ وهل الوالد هو الاب بمفومه الاصلاحي البسيط أم هو السلطة، القوة، القوانين، وسارقي الأحلام من الانسان، جميعها مرادفات للسيد الوالد، فالسلطة القمعية اب والقانون الذي لا يحمي الطفولة أب، والناس الذي يبيعون البلد باسم المال أب ومن يرغب في التحكم في احلام الانسان أب، جميعهم آباء يريدون تشكيل الأبناء مثل العجينة، ولكن صنيعة الطين تقرر الانتفاضة.
تعيش الشخصيات على المتناقضات النفسية والحركية، هي لينة، طيبة امام الوالد وشرسة في غيابه، أبطال الحكاية خمس شخصيات، عائلة متكونة من ابنتين اختين متزوجات من اخويين واب ميت جسدا ولكنه حاضر روحا وغيابه كان السبيل للبحث عن الحقيقة، في المسرحية حاولت الاختين ايجاد حقيقة الاب المتوفي فاكتشوا حقيقتهن الموجعة فهن ايضا اوراق دون جذور.
صنع جسد الممثل ثورة على الخشبة، اجسادهم حمالة معاني ورموز العمل اعتمدوا على لغة الجسد كثيرا، لكل ممثل طاقته الخاصة في التعامل مع الشخصية، وابراز تناقضاتها العاطفية الى المتلقي، الشخصيات رغم اختلافها لكنها تتحدث نفس النص وتعيد احيانا الحركة ذاتها في إشارة الى تكرار انسان اليوم لحكايات الماضي دون وعي في احيان كثيرة، في المسرحية ابدع كل ممثل في ملامسة باطن الشخصية، مسك ملامحها وتفاصيلها وانصهر فيها ليكون الأداء صادقا وقريب من الجمهور.
“مأتم السيد الوالد” تجربة بصرية ومسرحية جديدة لمهند هادي، نص ينتفض على الواقع ويدعو الى تغييره، يحطم الاصنام الفكرية والقدسية الزائفة للسلطة، لكاتبي التاريخ ويدعو عبر شخصياته لمراجعة ما وصلنا من قصص الماضي فبعضها زائف تماما زيف انتماء البنتين لاب يقدسونه فاتضح انهن ليسوا بناته، تاريخ بعضه زائف يكتب حسب رغبة الوالد، القائد ايا كانت صفته الدينية أو الاجتماعية والسياسية.
المسرحيو تفتح جراحات الماضي وتحاول كشف الحقيقة، نص جريء لمسرحي يعرف بثورته في الكتابة وايمانه بقدرة المسرح على التغيير، نص يفتح دفاتر الماضي ويطرح السؤال عن مصداقية الحاكم وكتاب التاريخ وناقلي الحقائق، نص يثور على الصمت ويدفع الى طرح السؤال، فمسرح مهند هادي فضاء التفكير أو لا يكون.
لامس العمل الابعاد الدفينة للنفس البشرية، لكل شخصية مساحتها من البوح، الفتيات الاكثر عناء فالبنت الكبرى اجبرت على ترك الجامعة لاجل الزواج والثانية حرمت من طفولتها باسم الزواج ايضا، في غياب قوانين تحمي النساء تكون سلطة المجتمع الذكوري هي القانون الواحد والاقوى، لكل من البنتين احلام مجهضة وآمال متلاشية فقط لانهن نساء والاب السلطة من يختار مصيرهن.
مسرحية “مأتم السيد الوالد” فيها الكثير من الاسقاطات السياسة والاجتماعية، تجربة تشرع للسؤال وتدعوا لتحطيم الاصنام الفكرية والانتفاض عليها وكتابة تاريخ جديد.

السينوغرافيا بوابة لجماليات بصرية وفنية

المسرح ملحمة للحرية، الخشبة فضاء ممتد لحكايات لا نهاية لها، على الخشبة تبعث الحياة في الجماد، فالاضاءة والديكور والموسيقى تصبح حية وشريكة الممثل في الابداع المسرحي وعبر السينوغرافيا صنع مهند هادي ملحمة بصرية شكلت الملامح العامة للفضاء الدرامي و ترجمت الافكار والنصوص الى رموز.

في “مأتم السيد الوالد ” أختار المخرج ديكورا متحركا، عبارة عن منزل، تتوسطه أريكة فارغة دائما أو تحمل صورة الشخصية الحاضرة الغائبة في الحكاية، كلما تحرك الديكور تحركت معه

الشخصيات ليصنع فرجة بصرية تثير السؤال، مع تحريك الديكور تتغير وضعيات الشخصيات بوجود الأريكة الحمراء صورة الوالد يكونون مطيعين هادئين وفي الجهة الاخرى تبعث فيهم دماء الرفض والقوة.

كما اعتمد المخرج على إضاءة خافتة، أغلب المشاهد فقط نصف ملامح الوجه تظهر جيدا، في إشارة ال. حقيقتهم المخفية واسرارهم المدفونة، لكل شخصية حكايتها الخاصة ولكل منهم وجع يريد اخفاءه عن البقية فكان الضوء انعكاس لدواخلهم، لارواحهم الموجوعة، الاضاءة تصبح وكانها شخصية تتحدث وتغيرت وتصنع الحدث والفاجعة، فالاضاءة ساهمت في تشكيل الحالة العاطفية للشخصية وكانت الوسيلة للدخول الى الاصطرابات والصراعات النفسية التي تعيشها الشخصيات الاربعة.
صدحت الموسيقى باسرار مخفية،الموسيقى المعتمدة في العرض كانت ترجمة للافكار، رصدت تقلبات الشخصيات واحلامهم المجهضة، انطلقت من الألم النفسي وصنعت الموسيقى عالم حسي يشرك المتفرح في الحكاية ويدفعه للتماهي مع وجع الشخصية، فالموسيقى تشبه سيفونية للرفض تطلقها الشخصيات، جميعخم يرفض الواقع ويريد التغيير عبر الإيقاع أو الحركة التي تحولت الى موسيقى.
اعتمد المخرج على السينوغرافيا لتكون بوابة الحقيقة ومن خلالها يفهم المتلقي حكاية كل شخصية، السينوغرافيا بكل مكوناتها شكلت تجربة بصرية متعددة الابعاد وكاننا امام لوحة تجسد التافصيل الصغيرة التاريخ وتنقلها بالابيض والأسود وللمتفرج الحق في تلوين بقية اللوحة كما يشراء.
“مأتم السيد الوالد” مسرحية تشاكس الواقع، عمل آخر يضيفه مهند هادي للمدونة المسرحية العراقية والعربية ويثبت انه مخرج قادر على التجديد وملامسة الفكرة، تجربة إبداعية جديدة ظل عبرها هادي وفيا لمنطق الحفر في الذاكرة العراقية كما سبق وان اشتغل في “حظر تجوال” و “رحلة الهبوط” و “رائحة القهوة’ و”,في قلب بغداد” و”خلاف” وجميع هذه الأعمال تطرح واقعا مغايرا، تلامس وجع الانسان وتدعوه الى الثورة والتغيير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى